شكل المنتدى الاقتصادي المغربي الفرنسي، الذي نظم حول موضوع "الأقاليم الجنوبية المغربية: نحو آفاق جديدة لتطوير الشراكة الاقتصادية المغربية–الفرنسية"، والذي احتضنته الداخلة أمس الخميس، محطة بارزة في مسار التعاون الاقتصادي بين المغرب وفرنسا، وتأكيدا عمليا على التزام باريس بدعم تنمية الأقاليم الجنوبية للمملكة المغربية.
فبين البنيات التحتية الكبرى، ومشاريع الطاقات المتجددة، والموقع الأطلسي الاستراتيجي، جسدت هذه التظاهرة الاقتصادية رغبة مشتركة في بناء شراكة متميزة تتجه نحو إفريقيا، وترتكز على المشاريع الفعلية بدل الاكتفاء بالتصريحات والنوايا.
وسلط المشاركون الضوء على ميناء الداخلة الأطلسي الذي يوجد في صميم الاستراتيجية التنموية للمملكة، باعتباره مشروعا ضخما ورمزيا. وقد صمم هذا الميناء ليربط المغرب بغرب إفريقيا ويفتح له منفذا مباشرا على الأسواق العالمية، مجسدا الرؤية الملكية الرامية إلى جعل الأقاليم الجنوبية قاعدة انطلاق لسياسة تنموية إقليمية متكاملة.
وأكد خالد سفير، المدير العام لصندوق الإيداع والتدبير، أن هذا الميناء "صمم ليكون رافعة للمنطقة الصناعية واللوجيستية، ولجهة الداخلة – وادي الذهب عموماً، وليشكل بوابة نحو غرب إفريقيا". وفي إطار المبادرة الملكية الأطلسية، تطمح الداخلة إلى أن تصبح محوراً للتبادل بين غرب إفريقيا وأوروبا، وهو دور تزداد أهميته في ظل العجز في الربط والبنية التحتية الذي يعرقل المبادلات الاقتصادية بالمنطقة.
ويأتي هذا المشروع ضمن برنامج تنموي شامل تبلغ قيمته نحو 80 مليار درهم، يموّل حوالي 700 مشروع هيكلي، من أبرزها الطريق السريع تزنيت–الداخلة على مسافة 1.055 كيلومترا، الذي سيسهّل بشكل كبير حركة الأشخاص والبضائع. كما تمثل الطريق الكهربائية الرابطة بين الداخلة والشبكة الوطنية خطوة استراتيجية نحو تعزيز الأمن الطاقي للمملكة.
الطاقات المتجددة
إذا كانت البنى التحتية تشكل الهيكل العظمي للتنمية، فإن الطاقات المتجددة تمثل جهازها العصبي. ويهدف المغرب إلى تحقيق 52 في المائة من الطاقة المتجددة ضمن مزيجه الطاقي في أفق سنة 2030، مستفيداً من مؤهلات طبيعية استثنائية في الأقاليم الجنوبية.
ويجسد اتفاق تحلية المياه الذي تنفذه بشراكة بين شركة ناريفا المغربية، الرائدة في الطاقات المتجددة، ومجموعة إنجي الفرنسية، نموذجاً حياً لهذا التعاون. إذ ستوفر محطة التحلية المياه اللازمة لري 5.000 هكتار من الأراضي الزراعية في جهة الداخلة، في مثال ملموس للتعاون المغربي-الفرنسي طويل الأمد، كما أبرز ذلك محمد الكتاني، الرئيس المشارك لنادي رجال الأعمال المغرب–فرنسا.
كما أن العرض المغربي في مجال الهيدروجين الأخضر، القائم على بنية تحتية متطورة وموارد طبيعية وفيرة، يفتح آفاقاً واسعة للتعاون الصناعي مع فرنسا وأوروبا في مجالات الطاقات النظيفة والانتقال الطاقي.
تحول يتجاوز الرمزية
أكدت سفيرة المملكة المغربية بفرنسا، سميرة سيتايل، على الطابع الجوهري لهذا اللقاء بقولها "وجودنا هنا في الداخلة ليس مجرد وجود رمزي، بل هو فعل ملموس في سياق جديد". وقد شكّل تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بتاريخ 30 يوليوز 2024، الذي أكد فيه أن "حاضر ومستقبل الصحراء المغربية يندرجان في إطار السيادة المغربية"، منعطفاً حقيقياً فتح الباب أمام التزام فرنسي فعلي.
وقالت إن الداخلة تختزل أهم أولويات القرن، بما في ذلك الانتقال الطاقي، والتدبير المستدام للمياه، والبنية التحتية للموانئ والخدمات اللوجيستية، والصيد المسؤول، والسياحة المستدامة.
وفي معرض تطرقها لميناء الداخلة الأطلسي، والطريق السريع تزنيت-الداخلة، بالإضافة إلى برامج تحلية المياه والطاقات المتجددة، أكدت سيطايل أن هذه المبادرات تجسد الطموح لبناء نموذج تنموي حديث ومرن مرتبط بإفريقيا.
كما أشادت بالمشاركة الفعالة للعديد من المؤسسات الفرنسية المنخرطة بالفعل في تنمية الأقاليم الجنوبية للمملكة، بما في ذلك الوكالة الفرنسية للتنمية، وبروباركو، وغرفة التجارة والصناعة الفرنسية في المغرب، التي تدعم مشاريع التنمية المستدامة وتعزز التبادلات الاقتصادية.
من جهته، استعرض السفير الفرنسي بالمغرب، كريستوف لوكورتيي مسار التنمية الشاملة التي يشهدها المغرب، مشيرا إلى أنه "في المجال الصناعي، ارتقى البلد إلى مستوى غير مسبوق في سلاسل القيمة العالمية، بينما في المجال الطاقي، يتحول المغرب إلى عملاق حقيقي في الميدان".
وأورد في سياق مداخلته، أن الشراكات المغربية - الفرنسية قائمة بالفعل لاستغلال هذه المؤهلات سواء في مجال الطاقات المتجددة، أو الربط بين أوروبا وإفريقيا، أو آفاق تطوير الهيدروجين الأخضر. وأوضح أن "كل ذلك سيتم أساسا في جهات كلميم واد نون، والعيون الساقية الحمراء، والداخلة وادي الذهب". وأضاف لوكورتييه موجها حديثه إلى الشركات الفرنسية: "الآن، أكثر من أي وقت مضى، هو الوقت المناسب لتسريع وتيرة اغتنام الفرص التي يوفرها المغرب في هذه الجهات بشكل أكبر".
كما شدد الدبلوماسي على أن هذا المنتدى "يجسد الدينامية الاقتصادية الاستثنائية بين بلدينا"، مبرزا أهمية تنظيم هذا الحدث في الداخلة، المدينة التي ترسم فيها وتتطور ملامح تعاون الغد".
وأوضح أن هذا المنتدى يحمل أيضا دلالة رمزية بالغة الأهمية، لأنه يجسد الموقف الواضح وغير الملتبس لفرنسا بشأن الصحراء، وهو الموقف الذي أكده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ومفاده أن "حاضر ومستقبل الصحراء يندرجان في إطار السيادة المغربية".
وقد عكس حضور أكثر من 40 من قادة الشركات الفرنسية الذين وصلوا على متن طائرة خاصة من باريس حجم التعبئة والاهتمام المتزايد بالفرص الاستثمارية في المنطقة، خاصة في قطاعات الطاقة، إزالة الكربون، الصناعة، اللوجيستيك، الأغذية الزراعية، التحول الرقمي، الهندسة والسياحة.
نموذج تنموي مستدام
لا يقتصر التحول في الداخلة على المشاريع الكبرى، بل يتجسد أيضا في نموذج تنموي بشري متوازن يضع الشباب والإدماج والتكوين في صلب أولوياته. وأوضح ينجا الخطاط، رئيس مجلس جهة الداخلة – وادي الذهب، أن برامج التكوين المهني والجامعي في الجهة "تهدف إلى تزويد الشباب بالمهارات اللازمة لاقتصاد الغد".
ويعكس هذا التوجه الرؤية الملكية للتنمية المندمجة، التي ترى أن ازدهار المملكة لا يمكن أن يتحقق من خلال مبادرات قطاعية معزولة، بل عبر مقاربة ترابية شاملة تجعل كل جهة فاعلاً في التنمية الوطنية ومستفيدة من نتائجها.
ويمتد هذا النهج إلى القطاع السياحي، حيث تشهد الأقاليم الجنوبية طفرة نوعية تجمع بين غنى الموروث الثقافي وتطور البنية التحتية، ما يجعلها وجهة واعدة للسياحة المستدامة والمسؤولة.
شراكة اقتصادية متجددة
وفي ختام اللقاء، أكد خالد سفير أن "المغرب وفرنسا أمام فرصة استثنائية لإعادة ابتكار شراكتهما في إطار من التكافؤ الاستراتيجي والاحترام المتبادل والمصالح المشتركة". وترتكز هذه الشراكة الجديدة على ثلاث ركائز أساسية: الثقة المتبادلة القائمة على روابط تاريخية متينة، والفرص الاقتصادية والاجتماعية الواعدة في الأقاليم الجنوبية، ثم التموقع الإفريقي للمغرب كفاعل رئيسي في الدينامية القارية.