في ذكرى رحيل صاحب ابو تمام وعروبة اليوم

عبد الله البردوني شاعر بصير في زمن أعمى

الأربعاء 05 شتنبر 2007 - 12:09

حلت الذكرى الثامنة لرحيل أشهر شعراء اليمن وأحد أبرز شعراء الوطن العربي في القرن العشرين الشاعر والمفكر والناقد عبد الله البردوني الذي رحل في 30 غشت 1999 .

ثمانية أعوام مرت على رحيل الشاعر وجه اليمن المشرق واديبها الفذ .. قاموس الثقافة المتنقل مات وكأنه لم يمت ... لا تزال أشعاره تملأ الدنيا تعبر عن واقع الحال
الشاعر الذي صنع من القصيدة قرص خبز الفقراء وكراسة ثقافة .... وجامعة شاملة
بصير في زمن أعمى ... وموقف في زمن بلا موقف ؟ قال : لا ... في مراحل قال فيها آخرون نعم ... البردوني أعطى الشعر قيمة ... وكان شجرة وارفة الظلال ... حمل اليمن يمن الفقراء والمغلوبين على امرهم معطفا فوق ظهره وراح يتنقل به عبر بوابات العالم صارخا محتجا في وجه الظلم والاضطهاد والاستعمار في كل اشكاله وصوره
مما اكسبه شخصية كارزمية قوية الحضور في أوساط الناس ووجدانهم .

شكل البردوني حالة خاصة في المشهد الابداعي والثقافي في اليمن خاصة، والعربي إلى حد كبير، وان كانت الجغرافيا قد ظلمته كثيرا كما ظلمت غيره من المبدعين اليمنيين فهو لم يكن ابن القاهرة أو بغداد أو بيروت أو دمشق وهي مراكز الثقافة الاكثر نشاطا في دول المركز المستأثرة بالاعلام والحركة الابداعية والثقافة الاكثر نشاطا وتماسا مع العالم الواسع، ولكنه ابن اليمن البلد الاكثر هامشية والتي دخلت القرن العشرين وهي تجهل عن العالم كل شيء وخرجت منه وقد عرفت عن العالم أشياء كثيرة دون أن يعرف العالم عنها إلا النزر اليسير.

قلة من أدباء اليمن كسرت حاجز العزلة اليمنية ووصلت بأصواتها إلى العالم إلا أن البردوني يتميز من بين هذه القلة بكونه لم يصل علي جناحين من ابداع وسلطة بل وصل على جناحين من ابداع خالص وثقافة واسعة وحضور قل مثيله، الاأن ارتباط الشاعر باليمن الممتد في عروق التاريخ المتجذر في جغرافيا العرب الساكن في خلايا سكانه وموروثات أبنائه لم يشفع للرجل الذي ظل مجهولا في عامة العرب، وإن احتفلت به نوادي الأدباء وملتقيات الشعراء.

فالشاعر القادم من عمق طرف العرب لا يعرفه إلا المتخصصون ولا يردد معه شعره إلا قلة من المتذوقين، مما يطرح إشكالا طالما نغص حياة كثير من المهتمين بأطواد المعرفة والأدب في العالم العربي.

الى ان حل عقد السبعينيات ليقتحم البردوني بخروجه المدوي ساحة المشهد الثقافي والابداعي العربي من خلال الضجة التي احدثتها قصيدته أبو تمام وعروبة اليوم التي ألقاها في مهرجان أبي تمام الذي اقيم في مدينة الموصل العراقية سنة 1971التي يقول في احد مفاصلها : حبيب وافيت من صنعاء يحملني نسر وخلف ضلوعي يلهث العرب ماذا احدث عن صنعاء يا أبتي مليحة عاشقاها السل والجرب ماتت بصندوق وضاح بلا سبب ولم يمت في حشاها العشق والطرب

وقد وزع البردوني اراءه وأفكاره في كتبه الادبية والثقافية والفكرية التاريخية التي كان صدورها يتوالى تباعا منذ بداية السبعينيات مثل : قضايا يمنية اليمن الجمهوري »فنون الادب الشعبي في اليمن الثقافة الشعبية تجارب وأقاويالثقافة والثورة في اليمن الزبيري من أول طلقة إلى آخر قصيدة أشتات

هذا غير مجلة الفكر والأدب أهم برنامج ثقافي بثته اذاعة صنعاء ويوجد منه في أرشيفها ألف ومائتا حلقة

ومئات المقالات في الصحف والمجلات، وعشرات الحوارات الصحفية التي كان أغلبها يفجر أزمات بين البردوني وقطاعات واسعة من الكتاب الكبار في اليمن
وعندماحل عقد الثمانينات كان المثقفون والمبدعون في اليمن ومعهم قطاعات واسعة من المتعلمين والنشطاء في المجال السياسي والمجال الاجتماعي والساحة الاكاديمية يدركون جيدا أن البردوني من خلال التحامه الابداعي والفكري بروح الشعب ودفاعه عن قضايا الناس وتعبيره عن شجونهم واعتصاره ابداعيا لنبضهم الماثل في تراثهم الحكائي والتاريخي وسخريتهم اليومية من الحاكم ومن خلال ما حققه من نجاح فكري واستعصاء على كل سلطة لا تمثل تطلعات الناس وما قدمه في شعره من تصوير لخيبات آمالهم في قادتهم ومن ادعوا النضال ثم سقطوا
لا نستطيع ونحن نقرأ البردوني أن نفصل حياته عن ابداعه فكل حياته كانت مكرسة للابداع والكتابة اما فعلا يتحقق شعرا ودراسات مختلفة واما قراءة ومثاقفات يبحث من خلالها عن وجوه للتحقق الابداعي والفكري أشكالا ومضامين ورؤى
اخلاص البردوني لتجربته الشعرية ومثابرته على تطويرها ومراقبته المرهفة لخطها البياني وانتقالاتها المختلفة وربطها بمختلف التيارات الابداعية منذ القصيدة الجاهلية وحتي قصيدة النثر في احدث نماذجها جعل قصيدة البردوني تبدو من بين كل قصائد شعراء العمود العربي الكبار أحفل بالمغايرة مغايرة الآخرين من شعراء العمود ومغايرة التجربة البردونية ذاتها لنفسها.

فاذا كان البردوني قد بدأ في ديوانه الاول من أرض بلقيس رومانسيا يلتقي مع أمثاله من كبار شعراء العمود العربي الذين يجايلونه أو يسبقونه بجيل أو جيلين كما يمتد من تراث عريق عرفه ووعاه فإنه في ديوانه الثاني في طريق الفجر« الذي صدر سنة 1966م كان قد بدأ رحلة المغايرة ومفارقة النموذج المألوف.


تماهيا مع منجز الحداثة الشعرية العاصف ووعيا بضرورة التفرد في خلق امكانيات جديدة للعمود الشعري تبقيه داخل مضمار الحياة غير أن القاريء لن يلمس هذا التوجه واضحا الا في ديوان الشاعر الثالث »مدينة الغد« الصادر سنة 1970م حيث بدأت قصيدته تفارق الطابع البنائي المعتاد لقصيدة البيت لتبني نفسها بطريقة خاصة من داخل محتواها الخاص

وقد ازداد ذلك وضوحا في دواوينه اللاحقة لعيني أم بلقيس 1972م السفر الي الايام الحضر 1975م وجوه دخانية في مرايا الليل 1977م زمان بلا نوعية 1979ترجمة رملية لأعراس الغبار 1983م كائنات الشوق الآخر 1986م رواغ المصابيح 1989م جواب العصور 1991م رجعة الحكيم ابن زايد 1994م وهي دواوين أكد فيها البردوني على نزوعه الخاص الي التجديد وعمق في تجربته مغايرتها لتراث العمود الذي لم تعد تشبهه بأي حال من الاحوال ومغايرتها لنفسها بالاختلاف الملحوظ من ديوان الى ديوان من حيث التقنيات والتجريب وتخليق الامكانات من داخل اللغة نفسها والاستفادة من فتوحات القصيدة الحديثة بطرق ادائها المتجددة التي تعبر عن الموقف الشعوري بالصورة وتستعمل القناع، والمونتاج والمنولوج والديالوج والتناص إضافة إلى هدم الموضوع التقليدي لقصيدة البيت وتعبئتها بموضوع جديد وخاص

علي الجانب الآخر جانب الرؤية والموقف والرسالة داخل القصيدة لعبت ثقافة البردوني الموسوعية ومعتقداته الفكرية ومواقفه ورؤاه الاجتماعية والسياسية والأدبية دورا كبيرا في إحداث انتقالات واسعة بتجربة وموضوع قصيدته

التي كان الثابت الوحيد فيها هو الإنسان وضرورة تحقيق شروط إنسانيته

وعيشه الكريم مواطنا حرا لا يظلم ولا يستعبد ولا يستغل ولا يستغفل، ومن أجل إيصال هذا المفهوم إلى المتلقى استعمل البردوني أساليب وطرقا شتي كتب القصيدة المحرضة المباشرة

واستدعى التاريخ في لحظاته المظلمة وشخصياته الظالمة مقابل اللحظات الأخرى المضيئة والشخصيات العادلة فيه وتغني بالشخصيات الشعبية الحكيمة واستنطق الأرض عن حنوها على ابنائها مؤنسا خضرتها وثمارها الممزوجة بعرق الفلاحين ونبض آمالهم واتحادهم بها حياة ومصيرا ومشاعر تتلون بألوان أزهارها : ذائب في الأرض إني نبتة من حشاها شكلتني عن براعه زرعت غصني وفيه انزرعت اغصنت في قامتي زادت فراعه وأنا أورقت في أغصانها صرت من أقباس عينيها شعاعه يتبع السؤال بالسؤال ويضني لماذا بكيف حتى تتحول الاجابة الى سؤال آخر يبحث عن إجابات

وتشهد هذه الفترة بالذات إلحاح البردوني على رمز المخلص أو المصطفى أو المهدي المنتظر

الذي يمثل روح الشعب وزبدة الجماعة ونفس الانسانية

والخلاصة النقية التي تنعقد عليها الآمال

بعد أن مال الحال

تتبلور هذه الفكرة من خلال ورودها في سياقات شعرية كثيرة عنده

ثم تأخذ سمتها الكاملة ثوريا وموقفا ورؤية وروحانية في قصيدة »مصطفى« إحدى أشهر قصائد البردوني، حضورا في الوجدان يا مصطفي أي سر تحت القميص المنتف هل أنت أرهف لمحا لأن عودك انحف أأنت أأخصب قلبا لأن بيتك أعجف لم أنت بالكل أحفى من كل أذكي وأثقف من هذا الحب حيث تناسى الشاعر نفسه وهمومه وحمل هموم الناس دخل البردوني بفكره المستقل الى الساحة السياسية اليمنية، وهو المسجون في بداياته بسبب شعره والمُبعد عن منصب مدير إذاعة صنعاء، والمجاهر بآرائه عارفا ما ستسبب له من متاعب :

يمنيون في المنفى ومنفيون في اليمن
جنوبيون في صنعا شماليون في عدن
خطى اكتوبر انقلبت حزيرانية الكفن
فمن مستعمر غاز إلى مستعمر وطني

ولد عبدالله صالح بن حسن الشحف البردوني في قرية البردون جنوب العاصمة صنعاء سنة 1928 تقريبا ومنذ اصطدامه الأول بالحياة وجد نفسه فقيرا في أسرة فقيرة في قرية فقيرة في بلد فقير ومتخلف تفترسه الأمراض والأوبئة والمجاعات حتى أن أمه علقت على انضمامه إلى أسرتها بالقول : أصبنا ثلاث مصائب لم ينزل المطر ومات الجمل وولد عبدالله..

في اليمن درس البردوني القرآن مجودا ودرس النحو والبلاغة والفقه وأصول الدين وبدأ الشعر هاجيا يصطدم بالناس والسلطة بحدة عنف واحتجاج تقوده في النهاية إلى السجن الذي حل فيه تسعة أشهر عقب فشل الحركة الدستورية سنة 1948 وبدخوله السجن ثبت البردوني رغبته الأولى في أن يختلف ويغاير ويتميز مبدعا ومثقفا وقبل ذلك مواطنا حقيقيا بيد أن التميز الحقيقي سيبدأ بعد رحيله من ذمار إلى العاصمة صنعاء
رحل البردوني عن اثنى عشر ديوانا وثمانية كتب منشورة وديوانين مخطوطين هما : رحلة ابن شاب قرناها والعشق في مرافيء القمر وثلاثة كتب مخطوطة هي »الجمهورية اليمنية والجديد والمتجدد وسيرته الذاتية.




تابعونا على فيسبوك