القديس X لجوزف عيساوي

محاولة لجعل الشعر يقول أشياء لاتقال كثيرا

الأربعاء 29 غشت 2007 - 10:08

عن دار النهضة العربية ببيروت صدر للشاعر اللبناني جوزِف عيساوي، ديوان القديس X، يتضمن اربعين قصيدة يشعر القارئ أن كل قصيدة مكتوبة وفق طلاقتها الخاصة.

لايجدبها الخضوع لسلوك طريقة أو الانضمام إلى تيار هذا لا يعني بالضرورة أنها كتابة فريدة ومولودة من نفسها القصد هو أن ثمة محاولة لجعل الشعر يقول أشياء لا تُقال كثيراً.

هناك خصوصية في مقاربة موضوعات القصائد، إضافة إلى نضج في الصور التي تلمع هنا وهناك، وتمنح الكتاب فرادةيتميز بها الديوان قسمان، يحمل الأول منها عنوان جبال الثلج، والثانى
لستُ ميّتا
ونعلم الإشارة التى يحملها التعبير الأول

فجبل الثلج يعني القليلُ الذى يخبئ الكثير، لأن المُبحرَ في المحيط لا يرى منه إلا قمته الجليدية المدببة الصغيرة، لكنه يعلم أن تحت سطح الماء جبلا ضخما يختبئ للسفن ليحطمها.

وربما الشاعر يشير إلى الخطر القادم الذى لم يظهر منه إلا قليلُه على أن الكثيرَ آتٍ لا ريب فيه وأما القسم الثانى فمرثيات لموتى عيساوي لا يخترع عبارته الشعرية من العدم
نبرته قريبة مما اتُفق على تسميته باليومي والعابر والمتواضع من الأشياء والحوادث
لكنّ الشاعر يكتب ذلك بمزاج خاص يكتب اليومي والعابر لكنه لا يكتفي بذلك
ثمة جهد مبذول لتكون الجملة أعلى من يوميتها، أو أثقل منها.

لنقل إنّ لغة القصائد ليست شديدة النثرية، كما الحال في الشعر اليومي، وإنها، في الوقت نفسه، ليست لغة درامية أو مجنحةهناك فلسفة ما في هذه اللغة تجعلها بين بين ولعل حضور مواد ورموز دينية يمنح اللغة بعضاً من ثقلها ومتانتها، حتى إن القارئ قد يُصادف صورة شعرية تمزج مشهداً يومياً عادياً بمادة دينية : سيارات تعبر تلمع كحجارة معبد قديم« والعنوانُ الذي وضعه عيساوي لديوانه القديس x يحمل مفردتان الأولى تحيلنا إلى أجواء دينية كهنوتية، تمنحُ شعورًا بالأمن والنبالة والطهر والقداسة، سوى أن المفردة الثانية سرعان ما تردّنا إلى حال من الاستيهام والتيه واللا توصيف فالرمز X، فى مادة الرياضيات يشير إلى العنصرالمجهول و الغائب غير المتعيّن، وهو ما نضعه فى المعادلات الرياضية نيابةً عن القيم غير المعلومة، وهو ما نستدل عليه عبر القصائد فى القصيدة التي حملت عنوان الديوان الحقل الإنسانى تشير به إلى شخص لا نعلم اسمه على وجه الدقة على أن التجهيل فى مطلقه الأقصى يشير أيضا إلى التعيين المطلق فرمز X لا يشير إلى قديس بعينه، ومن تمة يشير إلى كل القديسين في آن هذه الفوضى التعينية يتقصّدها الشاعرُ ليرسمَ بريشتها عالما على شفا العدم
كما ان العنصر الديني في المجموعة، لا يأتي لتلبية حاجة إيمانيةأو تجديفية
إنه مقترح شعري، شأنه شأن أي ثيمة أخرى والشاعر نفسه سرعان ما يحطم هذا الإحساس لدى القارئ، وذلك حين يقلب المادة الدينية على قفاها ويستدرجها إلى تكوين شعري يبدو كأنه يدنّس التصور الغيبي :
إصبع السماء (في مؤخرات) يحلم بالجنة موتاها؟،
أو لحىً مقوّاة بسماد الخطايا
وتارةً أخرى يستثمر الشاعر ذلك في صورة مدهشة :
ثلوج كانت نوايا ( وممرات غزلان ) تغمر قبب الكاتدرائية البعيدة ( تحجب عن السماء ) ابتهالات المصلين .

الأرجح أنّ الآلهة والقديسين والناسكين والشياطين ليسوا مستقلين في مجموعة جوزف عيساوي، بل يعملون في خدمة القصيدة .

في سعيه إلى شعر مصفّى، يحق للشاعر أن يستدعي أي شيء لكي يُنجز عمل المخيلة
لذا علينا أن نصدقه حين يكتب : صوتي الخافت (يتسلق عشب الفجر ) يذوب مع ثغاء القطيع

كما لا تكادُ قصيدةٌ من قصائد الديوان تخلو من مفردة
الثلج أو أحد مشتقاته أو ما يدل عليه مما يوحي بظلال من الوحشة الصقيعية وأن حالا من انعدام الدفء وغياب الأمن تهيمن على الذات الشاعرة، ومن ثمة على أجواء الديوان، يقول الشاعر :

ثلوجٌ كانت نوايا تغمرُ قببَ الكاتدرائيةِ البعيدة تحجبُ عن السماء ابتهالاتِ المصلّين
ثَمِلا فى عيده يحرقُ قديسٌ الأجراسَ يُسيل حلوى على شخوص الأيقونة
جُرنُ الماء المقدّس فارغٌ إلا من ترنّحِ عصفور
زلزالٌ هَدَمَ المكانَ بعثر المذبحَ لم يَحُلْ دونَه أحدٌ ولا قديسَ يطيرُ فرحًا كلما شفى
هذه الصورة السريالية ترسم لوحةً صارخة لكونٍ يتحللالخطيئةُ موغلة حتى أن ابتهالات المصلين تُحجب عن السماء بطبقة كثيفة من الثلج

من أين أتى الثلج؟ ثمة خطأ وجوديّ وجماليّ فى الكون وفي النفس البشرية الراهنة يسبّبُ تحوّلَ النوايا إلى ثلوج

ولن نعرف هل هى نوايا طيبة تتجمد قبل تنفيذها؟ أم نوايا شريرة تتجمد بسبب شرّها فلا تتحقق؟
الاحتمالان قائمان فى الواقع ماداما يشيران إلى نتيجة واحدة مفادُها أن صقيعًا كونيًّا يغلّف قبب دور العبادة فيحول دون وصول دعوات الطيبين وصلواتهم إلى السماء
فى هذا التركيب اللغوى غير الشائع يحرقُ قديسٌ الأجراسَ ، لم يشأ الشاعرُ أن يقول : قديسٌ يحرقُ الأجراسَ، أو يحرقُ القديسُ الأجراسَ
وكلاهما أكثر شيوعا تركيبيا وإيقاعيًّا، بل أصرَّ على استخدام الجملة الفعلية، وعلى تنكير الفاعل وحرمانه من ال التعريف والعهدة، ليكرّس فكرة التعميم التى أشرنا إليها

الشاعرُ يودُّ أن يصدم أذُنَ المتلقى بجرْسِ الإيقاع المتوتر الناجم من التقاء ساكنين، أحدهما نهاية تنوين حرف السين في قديسٌ قديسنْ، والثانى سكون الْ فى الأجراس، لكى ينبهنا أن شيئا خطيرا يحدث، ولكى يشير كذلك إلى أن القديس غير المعرَّف يعنى كل قديس، وبالتالى يعنى كل رمز للطهارة، وليس فردًا بعينه.

هذا الكل المقدس لم يعد يرغب فى أجراس تُقرع، ولا فى مصلين يعتمرون بيته للدعاء والشفاعة، ربما لأنه لم يعد يصدق الناسَ الذين يأتون للصلاة ثم يخرجون مجددا للخطيئة
ثم يُسيل حلوى على أيقونات الكنيسة، فى إشارة إلى العادة الوثنية العربية القديمة، حين كانوا يصنعون أصنامهم من التمر أو الحلوى، يسجدون لها ثم يلتهمونها ذات جوع
حتى حوض الماء القدسيّ الذى يتعمّد فيه الناس للتطهّر فارغٌ، وليس به إلا ظلالُ موت وشيك لجسد عصفور يتخبّط فى جدرانه ثم يلقى حتفه.

وفى الأخير يوجزُ الشاعرُ أن عِلّة هذه الفوضى زلزالٌ يهدّد الكون، ويبعثر الذبائح ولا أحد ثمة يعبأ بالذود عن مكان العبادة، الذى يرمز للطهر البشري والفضيلة.

هذا القلق الوجودى الذى يتلبّس الذات الشاعرة ويشعرها بأن الهوّةَ بيننا وبين السماء تزداد اتساعا، تتكرر عبر معظم القصائد، والسبب هو أن طبقةً كثيفةً من الثلج تفصلنا عن السماء التى ترمز للروح السامية المتعالية والطهرانية.

يقول فى قصيدة موتى الشجر : قطنٌ تكدّسه السماء ثمة مزيدٌ من موتى الشجر، الشاعر لا يُغريه مثلنا جمالُ الغيمة وبياضُها، بل يرى فى ثلوجها البيضاء سببا فى انصرافِ السماء عنا وتكاثر خطايانا ومن ثمة احتجاب صلواتنا، بل وسببا أيضا فى فناء كل خير فوق الأرض التى أشار إليها بموت الشجر، بما أن الخضرةَ رمزٌ للنماء والخير
وفي قصيدة حذارِ يقول :
ملاكى الحارسُ فلتنزعْ النقابَ لأرى غيابَه ممهورا بالعسل والشوك قمحا أحيانا مسمَّما في إكليل المسيح، غيابُ الملاك قد يكون عسلا للخطائين، لكنه شوكٌ للأبرار، وهو قمحٌ، لكن مسمومٌ، للخونة الذين سلموا المسيحَ للموت.

معجم من قبيل : ضباب، ظلمة، سجن، ذئب، مآتم، قمقم، عذاب، شظايا، قنابل، نعوش، ثكلى، كآبة، العدم، موتى، الليل، الشيطان، تصرخن، مشنقة، نصال، الانتحار، الخطيئة« ينتشر بين ثنايا القصائد ليكرّس فكرة انهيار العالم.

في قصيدة كابية عنوانها : سجن الله، يرسم لنا الشاعرُ طفلةً تحتضر لحتفها الوشيك متسائلا اهي الحياة تحتضر أم هي الارض :
"الآن تدخل طفلةٌ لتنام فلتُفرغُ الظلالُ من العتم سوف يحرسُها الخريرُ وصمتُ الحملان ويطمئنُ على رقادها تنينُ الأبد ... جفّفوا الظلالَ من النسماتِ زهرةُ البرية وعدتْ أن تتغذى من رئتى بيلندا الهزيلتين اسحبوا من الظلِّ اللونَ البريئةُ سوف تمنحُه لونَ الروح فلنبعثرْ حنجورَ والدها على نومها تستيقظُ تلفتُه إلى الدواء وترجع إلى سجن الله الخفي الصغيرةُ الآن حبلُ السُّرةِ يصل والديها ولارا بالتراب .

(جوزيف عيساوي شاعر لبناني واعلامي يشرف على برنامج ثقافي بإحدى القنوات الفضائية)




تابعونا على فيسبوك