في السابعة عشرة، يظن المراهقون ان العالم ينتظرهم ويحقق لهم احلامهم، لكن مروان كان يعرف جيدا ان العالم لا ينتظر احدا. في تلك الليلة التي غادر فيها بيته، شعر ان الباب خلفه لم يغلق فقط… بل اغلق فصلا كاملا من حياته.
وصل إلى ميناء طنجة قبل الفجر. كان الضوء الاصفر للمصابيح يرمش ببطء، وكأنه يراقب خطواته المرتبكة. كان يتحرك بحذر، كما يتحرك القاصرون دائما: بلا صوت، بلا ظل، وبلا خطة واضحة. كان هدفه بسيطا… أن يجد شاحنة واحدة تستطيع حمله إلى الضفة الاخرى.
عندما توقفت شاحنة لثوانٍ، لم يفكر كثيرا. تسلل، مد يده إلى الحديد البارد، والتصق ببدنها كما يلتصق الغريق بخشبة نجاة. لم يكن يفكر في اوروبا ولا في أي حلم واضح. كان يفكر فقط في ألا يسقط. ثم بدأ الطريق… طريق طويل، مظلم.. كل اهتزاز فيه كان يعني شيئا واحدا: الحياة او الموت.
حين تصل وكأنك لم تصل
في ميناء الجزيرة الخضراء، كانت النهاية لا تشبه أي بداية. لم يكن هناك تصفيق ولا دموع، بل شرطي يشير إليه قائلا: تعال.. نقلته الشرطة مباشرة إلى مركز للقاصرين. في تلك الليلة، نام على سرير بارد وجدران بيضاء تقلقه، لكنه وللمرة الأولى منذ أيام… نام دون خوف من السقوط من تحت الشاحنة.
بعدها، تنقل بين قادس وإشبيلية. كان يتعلم لغة جديدة في كل مدينة، ويبحث عن نفسه وسط وجوه كثيرة تشبهه: قاصرون بلا وثائق، بلا عائلات، بلا شيء سوى الرغبة في البقاء. وعندما بلغ 18 سنة، تغير كل شيء. خصصت له مصلحة الخدمات الاجتماعية شقة صغيرة… غرفة واحدة ونافذة تطل على شارع صامت. لكن تلك الشقة كانت بداية حياة.
في إشبيلية، قادته الصدفة إلى جمعية Salesianos، وهي مؤسسة تساعد الشباب في وضعيات الهشاشة. هناك، فهم لأول مرة معنى أن يساعدك أحد دون ان يسألك من أنت. تعلم اللغة، وعاد إلى الدراسة، وعمل في وظائف صغيرة تضعه كل يوم فوق أرض جديدة وغير مستقرة. وكان يردد لنفسه جملة واحدة: "إذا وصلت من تحت شاحنة… يمكنني الوصول إلى اي مكان."
طريق الشرطة.. ليس للضعفاء
حين قرر الترشح لمباراة الشرطة المحلية، قال له البعض إن الأمر صعب، وقال آخرون إنه شبه مستحيل. لكن مروان كان قد واجه المستحيل من قبل. درس ساعات طويلة، يراجع الدروس وهو يعمل، ويتمرن على اللغة وهو يطالع القوانين.
كان يعرف أن الامتحان لا يختبر المعرفة فقط… بل يختبر القدرة على التحمل. وفي صباح الامتحان، شعر بالتوتر القديم نفسه… ذلك الذي شعر به وهو يتشبث بأسفل الشاحنة. لكن هذه المرة، لم يكن خائفا من السقوط، بل كان يصعد.
وعندما ظهرت النتائج، حدث ما لم يكن يتوقعه: لقد نجح.
يقول بعدها لإحدى القنوات الإسبانية: "بكيت مرتين فقط في حياتي… عندما وصلت مختبئا تحت الشاحنة، وعندما قالوا لي إنني أصبحت شرطيا."
الشرطي الذي يتكلم العربية
اليوم، يتجول مروان في شوارع إشبيلية مرتديا زيا رسميا لم يحلم به يوما. أحيانا، يصادف مهاجرين مغاربة في تدخلاته اليومية. يتحدث إليهم بالعربية، فينظرون إليه بدهشة، وكأنهم يرون نسخة ناجحة من أنفسهم. يبتسم قائلا:
"عندما أتكلم معهم بالعربية… يظنون في البداية أنني أمزح."
لكنها ليست مزحة. إنها نتيجة طريق طويل، بدأ في الظلام… وانتهى في مكان مضاء وواسع.
يبلغ مروان اليوم 28 سنة، ويقوم بدورياته في شوارع إشبيلية بفخر وامتنان. قصته، كما حكاها لقناة الثالثة الإسبانية التي حاورته، دليل على أن الجهد والعمل يمكن ان يصنعا ما يبدو حلما بعيدا. ويتذكر دائماً مسقط رأسه القنيطرة، حيث بدأت الحكاية… قبل ان تكتمل فصولها على الضفة الاخرى.