الرقص مع صدام وخدام

الخميس 12 يناير 2006 - 17:45
عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق.

يكذب كل من يقول إن سوريا ليست في خطر، ويغالط كل من يروج لأن ما يحدث كله مسرحية هزلية أو تراجيدية أو حتى كوميدية، فكل ما يحدث منذ 14 فبراير الماضي يوم اغتيال رفيق الحريري وحتى اليوم تطورات سياسية في غاية الخطورة وتصيب المنطقة في الصميم وتقتلع قواعد مضى علي

السيد عبد الحليم خدام نائب الرئيس السوري السابق أبى أن ينتهي العام 2005 إلا ويفاجئ العالم بتفاصيل مهمة عن الوضع الداخلي في سوريا وعن اغتيال الحريري.
وواضح أنه تعامل مع الوضع الجديد بذكاء فقد استقال من منصبه في يونيو من العام 2005 وقال عبارته الشهيرة : " 61 سنة في العمل العام، يكفي يا رفاق" وترك منصبه ثم ترك سوريا وجاء في نهاية العام 2005 ليعلق في كلمتين على كل تلك السنوات عندما قال في حواره مع قناة العربية : "لم يبق أمامي إلا أن أغادر هذا النظام الذي أمضيت فترة طويلة من عمري في بنائه فخسرنا كل ذلك في خمس سنوات"، فهو لم ينكر كل ما قام ببنائه طوال سنوات الحكم، ولكنه جاء ليدافع عن نفسه عندما قال : "لست صاحب قرار بل كنت جزءا من القرار"، فغريب جدا أن نائب رئيس الجمهورية والرجل الذي قضى حياته في الحكم وإلى جانب الرئيس أن يقول إنه لم يكن صاحب القرار في أي شيء.

مما لا شك فيه أن ما فعله خدام يؤكد أنه سياسي يعرف كيف يساير المستجدات وكيف يتعامل مع المتغيرات وبدلا من الصمت الأبدي والانتحار كما فعل غازي كنعان -إن كان انتحر فعلا- فإن خدام اختار الكلام وخوض معركة قد لا تكون خاسرة، وكشف اللثام والرقص على الجراح بعد فتحها من جديد بتجاهل تام بأنه جزء من أسباب تلك الجراح، في محاولة واضحة من السيد خدام لتبييض المال وتبييض التاريخ السياسي الذي كتب في الأيام السوداء

ثم يأتي ليقول في نفس اللقاء إنه "خير بين النظام والوطن فاختار الوطن"، فهل يحتاج كل مسؤول عربي إلى أربعين عاما كي يعرف أن الوطن هو الباقي وأن عليه أن يختار الوطن وليس النظام؟

الواضح من كلام أعضاء مجلس الشعب السوري في جلستهم الخاصة لاتهامه بـ "الخيانة العظمى" بعد حوار العربية، أن خدام كان مخيرا دائما بين النظام والوطن ولكنه كان يختار النظام فما الذي حدث اليوم حتى يختار الوطن؟ أم أنها صارت موضة عربية عندما لا نجد غير الوطن فإننا نلجأ إليه؟ هذا ما يفعله ويمارسه الرئيس العراقي المخلوع صدام حسين في زنزانته.

صدام يأتي في كل جلسة محاكمة يحمل في يد مصحفا وفي اليد الأخرى قلما وأوراقا، في مشهد أقل ما يوصف بأنه "سريالي"، فلا أذكر طوال فترة حكم صدام وكل الصور التي كنا نراه فيها إلا وهو يحمل بندقية أو مسدسا وفي آخر الأيام كان يحمل سيجارا فاخرا ,ربما بعد أن صارت البندقية ثقيلة عليه, وهو اليوم بعد أن سحب من تحته كرسي الحكم صار متدينا يحمل المصحف دائما. وصار مثقفا ومبدعا يحمل القلم, وصار مواطنا صالحا ووطنيا يعطي دروسا في الوطنية وفي حب العراق, غريب أمر صدام وأمثاله.

الفرق الوحيد بين صدام حسين (رئيس جمهورية العراق السابق) وبين عبدالحليم خدام (نائب الرئيس السوري السابق) هو أن صدام يطل علينا هذه الأيام من قاعة محكمة في بغداد مليئة برجال الشرطة والجيش، أما خدام فيظهر علينا من قصر أوناسيس في باريس المليء بالزهور والتحف والتماثيل، لكن النتيجة واحدة فما يقولانه واحد وما يحاولان إيهام الشارع العربي به واحد ونتيجة ما فعلاه واحدة أيضا.

لذا فمن غير المقبول بعد قرابة الثلاثة عقود في الحكم وبعد اعترافاتهما بما فعلاه أن يظهرا علينا بثوب البراءة والتضحية والوطنية، فلم يكن خدام"شريف الشام" كما لم يكن صدام "شريف بغداد"

ونحن نراقب ما يحدث في العراق اليوم, أعتقد أنه من المهم جدا أن يفسح المجال في سوريا للرجال المخلصين والحكماء من الشعب السوري الذين يمكن أن يكون لهم صوت مسموع ومقبول لدى المجتمع الدولي والعربي كي ينقذوا ما يمكن إنقاذه وأن يعملوا على تفادي أي سيناريو دراماتيكي لا نتمناه لسوريا، النظام السوري اليوم وبعد كل الذي قاله خدام وما لم يقله صار أمام أمر واقع لا يجب أن يكابر تجاهه، ويجب أن يعرف كيف يتعامل مع التطورات الأخيرة بواقعية ودبلوماسية عالية بعيدا عن ردود الأفعال السريعة وبعيدا عن الاعتماد على نظريات المؤامــرة التي صــارت من الماضي السحيق الذي لم يعد يقبله العقل والمنطق ولم تعد تتأثر به غالبية الشعب العربي وترى فيه سخافات أكثر مما ترى فيه طريقة للاقتناع، والحقيقة أن كل العرب يقفون إلى جانب سوريا اليوم ومن المهم أن يقف النظام السوري أيضا مـع نفســه.

بالتأكيد فإن الواقعيين داخل سوريا اليوم يدركون أن الفرصة التي كانت تنتظرها الولايات المتحدة الاميركية باتت مواتية لما كانت تريد فعله منذ زمن وهو "تغيير السلوك السوري"، ولكن في المقابل من الواضح أيضا أن الأميركيين لن يدخلوا أنفسهم في ورطة أخرى كتلك التي وقعوا فيها في العراق وسيتبعون طريقة أخرى تكون أقل "كلفة"، فهل نجد في سوريا من يتعامل مع المعطيات الجديدة بعقلانية وواقعية لتجنيب الشعب السوري مزيدا من الخسائر؟

أعتقد أن هناك من يستطيع فعل ذلك ولكنهم بحاجة إلى من يسمح لهم بالقيام بذلك، سواء حوكم خدام بالخيانة العظمى أو حذفت كلمة "سيد" قبل اسمه أو لقب بـ "أبي قبح" بدلا من "أبي جمال" أو أحرق الكرسي الذي كان يجلس عليه، كما طالب البعض في مجلس الشعب.

فإننا لا نشك في أن القيادة السورية تدرك تماما أن ما قاله خدام يعتبر نقطة تحول مهمة في ثلاثة أمور : الأول فيما يتعلق بواقع النظام السوري حيث كشف خدام أن هناك مشكلات حقيقية وكبيرة في النظام الحالي وقارنه بنظام حافظ الأسد السابق، الأمر الثاني فيما يتعلق بالتحقيقات في اغتيال الحريري فقد بدا فيما قاله خدام أنه تأكيد للنتائج الأولية التي وصل إليها تحقيق ميليس والذي يشير بأصابع الاتهام إلى سوريا.

أما الأمر الآخر فيتعلق بالغطاء العربي الذي رفع عن سوريا، فبث الحوار على قناة العربية يؤكد إصرار الدول العربية على معرفة الحقيقة واستعدادها للذهاب إلى نهاية الطريق لمعرفة قاتل رفيق الحريري مهما كان مرتكب هذه الجريمة.

يبدو واضحا أن عام 2006 سيكون عام سوريا والمفاجآت ستتوالى ولن تتوقف عند شخصية من نفس وزن ومستوى خدام فكلامه سيدفع وسيشجع وسيجبر »البعض« على الكلام لحماية أنفسهم، أو لتحقيق تطلعات أكبر، أو للتبرؤ مما اقترفته أيديهم على مدى سنوات طويلة، إنها أيام حبلى بالأحداث فمن ذاك الذي يستطيع أن يوقف أحجار الدومينو من السقوط واحدا تلو الآخر؟ يبدو أنه لا أحد.

ليحفظ الله سوريا شعبا وأرضا من كل شر داخلي أو خارجي




تابعونا على فيسبوك