الصحفي والكاتب لحسن العسبي : وفاة عبد الرحمان اليوسفي خسارة كبرى للمغرب

الصحراء المغربية
الأحد 31 ماي 2020 - 12:07

أكد لحسن العسبي، صحفي وكاتب بجريدة الاتحاد الاشتراكي، وفاته رحمه الله خسارة كبرى للمغرب، لأنه شكل دوما بحضوره عنصر ثقة واطمئنان، وطاقة أمل إيجابية، وبرحيله، يقول مرحلة كاملة من شكل ممارسة السياسة من موقع السقف الوطني بالمغرب قد انتهت ببلادنا وبمنطقتنا المغاربية، وهنا فداحة الخسران الكبيرة في الواقع.

وعن إرث الفقيد الفكري والثقافي، كشف لعسبي أن له مجال مهم لابد من العودة إليه وتجميعه وإعادة نشر بعض موروثه، خاصة في شق الدراسات القانونية والإجتهادات الحقوقية التي أنتجها في مساره النضالي الطويل، والموزعة بين مصادر عدة داخل المغرب وخارجه، بعضها باللغة العربية وبعضها باللغة الفرنسية. لأنها تشكل مرجعا أكاديميا واجتهادا تفسيريا مدققا من الناحية القانونية مفيد للأجيال الجديد.
كما اعتبر أن  مرحلة التناوب التوافقي  محورا هاما يستحق كتابة خاصة ومستقلة، اعتبارا لضخامة ما تم إنجازه في مرحلة قيادته لحكومة التناوب، والتي لم تنصف إعلاميا للأسف، ولعل من العناوين الكبرى لتلك النتائج، استعادة بلادنا للثقة في إمكانياتها واستعادة قرارها السيادي المالي، بعد النجاح في تقليص المديونية الخارجية والداخلية.
ومن جهة أخرى قال الصحفي نفسه، أن المرحوم بصم مسار الكثير من الصحفيين مهنيا وليس مساره وحده، شاكرا الله أنه قيض له في مساره الحياتي والمهني أن يحتك بقامة رجل دولة من طينته، لأن ذلك، يضيف، أشبه بمن يغرف من بئر تجربة حياتية ومعرفية ذات ماء زلال، ومن الدروس الكبرى التي بصمت جيلنا الذي اشتغل تحت خيمته المهنية.

1 ـ وفاة القائد والسياسي والوزير الأول الأسبق شكلت خسارة ليس فقط لحزب الاتحاد الاشتراكي، بل للمغرب والمغاربة أجمعين، كيف تلقيتم خبر وفاته؟
تتبعت الحالة الصحية للأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، منذ ما قبل دخوله إلى مستشفى الشيخ خليفة بالدار البيضاء، إلى جانب قلة من المقربين منه، في مقدمتهم الدكتور فتح الله ولعلو، الأستاذ مبارك بودرقة والدكتور الفاروقي، وكان الإتفاق الحرص على عدم تسرب الخبر حرصا على راحته الصحية رحمه الله، إلى أن تسرب في اليوم الرابع من دخوله المستشفى من مصدر طبي عبر وسائط التواصل الاجتماعي. 
كان الأخ مبارك بودرقة قد نبهنا  أن سي عبد الرحمان لم يعد يقرأ الكتب والمجلات والجرائد كما اعتاد يوميا، وذلك الدليل على أن الأمر جدي هذه المرة.
قبل دخول قرار الحجر الصحي حيز التنفيذ يوم 20 مارس 2020، كان قد التقى بعض من أصدقائه والمقربين منه، ببيت الأستاذ إدريس جطو بالرباط، يوم 8 مارس 2020، حيث تم الاحتفاء به رفقة زوجته السيدة هيللين، بمناسبة عيد ميلاده 96، وكان في غاية الفرح والنشاط رحمه الله، وكانت تلك آخر مرة نلتقيه فيه جميعنا، من باب الحرص الجماعي على صحته وصحة زوجته، بسبب تطورات جائحة كورونا ببلادنا وبالعالم، وكان الاتصال يتم هاتفيا في غالب الحالات، فيما كان هو حريصا أن يبقى في شقته بحي بوركون بالدار البيضاء رفقة زوجته، مع متابعة يومية من قبل أخينا الدكتور الفاروقي (العميد الأسبق لكلية الطب بالدار البيضاء).
بقينا بالتالي، نتتبع تطور حالته الصحية بالمستشفى، حيث اتضح أن الوضعية مقلقة، وكانت الرعاية الخاصة لجلالة الملك محمد السادس دائمة ومتواصلة مرة أخرى، كما كان الأمر دوما في تتبع حالة سي عبد الرحمن الصحية في السنوات الأخيرة.
وفاته رحمه الله خسارة كبرى للمغرب، لأنه شكل دوما بحضوره عنصر ثقة واطمئنان، وطاقة أمل إيجابية، وبرحيله مرحلة كاملة من شكل ممارسة السياسة من موقع السقف الوطني بالمغرب قد انتهت ببلادنا وبمنطقتنا المغاربية، وهنا فداحة الخسران الكبيرة في الواقع.

2 ـ كيف تشخص مسار وعطاءات الفقيد كمقاوم وسياسي محنك؟
يمكن إجمال مراحل عطائه رحمه الله، في 3 مراحل كبرى، مرحلة العمل النقابي والسياسي والمقاومة ما بين 1942 و 1956، وهي مرحلة جد مكثفة وغنية امتدت من الحي العمالي كوزيمار والحي المحمدي بالدار البيضاء، الذي أسس فيهما فرقا لكرة القدم (مثل فريق الإتحاد البيضاوي)، ومدارس حرة مثل مدرسة الإتحاد، وأول تعاضدية عمالية بشركة كوزيمار، وصولا إلى المشاركة من موقع القيادة في حركة المقاومة المسلحة وجيش التحرير المغربي، مرورا بدوره في تأطير العمال والطلبة المغاربة بفرنسا ضمن الحركة الإستقلالية، والمساهمة في طرح القضية المغربية بالمحافل الدولية.
ثم مرحلة النضالي السياسي التقدمي، من خلال الحركة الإتحادية ما بين 1959 و 1998، من موقع المعارضة، للمطالبة بترسيم دولة المؤسسات والحق والقانون والخيار الديمقراطي، عبر الآلية الإنتخابية الحرة والنزيهة، وهي المرحلة التي شهدت امتحانات نضالية صعبة ومؤلمة له ولرفاقه في تلك الحركة السياسية الوطنية والتقدمية، قادته إلى الإعتقال والتعذيب الوحشي والمحاكمات، ثم انتهت بمغادرته المغرب وبقائه في المنفى من سنة 1965 حتى سنة 1980. وهنا برزت شخصيته كمناضل يزاوج بين فطنة القيادة السياسية (مثل دوره الفاعل في توجيه الفريق البرلماني الإتحادي أثناء تقديم ملتمس الرقابة سنة 1964)، وبين الفعل الميداني في أبعاده الحقوقية والفكرية من خلال مساهمته في المجال الإعلامي (رئاسة تحرير جريدة التحرير)، وتأسيس اتحاد المحامين العرب والمنظمة العربية لحقوق الإنسان، وقبلها لعب دور محوري في تنسيق دفاع عائلة رفيقه الشهيد المهدي بنبركة أمام المحكمة بباريس بعد اختطاف ذلك القائد الوطني الإتحادي يوم 29 أكتوبر 1965 بالعاصمة الفرنسية. وصولا إلى تسلمه قيادة حزب الإتحاد الإشتراكي للقوات الشعبية بعد رحيل رفيقه الكبير سي عبد الرحيم بوعبيد يوم 8 يناير 1992. وقيادته ماراطون الإصلاحات السياسية والإنتخابية والدستورية وتأسيس الكتلة الديمقراطية طيلة عقد التسعينات، الذي انتهى إلى قيادته حكومة التناوب التوافقي.
المرحلة الثالثة هي تحمله مسؤولية الوزارة الأولى، التي لعب فيها دور رجل الدولة الرصين، الذي ساهم فعليا في تجنيب بلادنا ما عبر الملك الراحل الحسن الثاني رحمه الله بخصوصه من قلق وتخوف من مخاطر "السكتة القلبية". وشكلت تلك التجربة انعطافة وضعت بلادنا على سكة جديدة لا نزال نعيش نتائجها إلى اليوم.
 
3 ـ ماذا عن إرث الفقيد الفكري والثقافي؟
هذا مجال مهم لابد من العودة إليه وتجميعه وإعادة نشر بعض موروثه، خاصة في شق الدراسات القانونية والإجتهادات الحقوقية التي أنتجها في مساره النضالي الطويل، والموزعة بين مصادر عدة داخل المغرب وخارجه، بعضها باللغة العربية وبعضها باللغة الفرنسية. لأنها تشكل مرجعا أكاديميا واجتهادا تفسيريا مدققا من الناحية القانونية مفيد للأجيال الجديدة، خاصة على مستوى القاموس الحقوقي المسنود بمعرفة قانونية صلبة. مع الإشارة أن الأجزاء الثلاثة الصادرة من مذكراته التي نجح الأخ مبارك بودرقة في اقتناص ملامح منها منه، تتضمن تجميعا لخطبه السياسية خلال مرحلة قيادته للحزب، وتعتبر مرجعا مهما كونها تتضمن خريطة معرفية للخلفية التي حكمت قراءته للأحداث السياسية بالمغرب خلال تلك المرحلة وشكل تفاعله معها وفعله فيها.

4 ـ هل من إضافات  بخصوص علاقاته الدولية وإسهاماته في التحرير  وإشاعة حقوق الإنسان وتجاربه النضالية؟
اليوسفي رجل دولة بمقاييس عالمية، بسبب ما نجح فيه من نسج علاقات مؤثرة مع مفاصل صناعة القرار الحقوقي والنضالي التقدمي بالعالم، سواء على مستوى الهيئة الأممية لحقوق الإنسان بجنيف أو المعهد الدولي لحقوق الإنسان بستراسبورغ أو منظمة أمنستي وغيرها. وكذا مساهمته الفعالة ضمن منظومة حقوق الإنسان الإفريقية والعربية. ثم دوره في قيادة الأممية الإشتراكية، وعلاقاته المؤثرة الكبيرة مع الصف الأول من القيادة الفلسطينية منذ الستينات، ودوره الفاعل في دعم تلك القضية العادلة، ودوره الفاعل بمنطقتنا المغاربية التي كانت له علاقات جد وازنة ومؤثرة مع كبار قادة الجزائر الشقيقة والجسم الحقوقي والتقدمي بتونس أيضا.، مثلما لعب دورا محوريا في خدمة عدالة قضية وحدتنا الترابية، منذ كان لا يزال منفيا بالخارج، وواصل ذات الدور حين عاد إلى المغرب بعد أن شمله العفو الملكي سنة 1980. ثم حين تحمل مسؤولية الوزارة الأولى حيث نجح في إقناع 35 دولة عبر العالم (خاصة في أمريكا اللاتينية وآسيا) لسحب اعترافها بالبوليزاريو.

5ـ شكلت مرحلة التناوب التوافقي لحظة سياسية هامة في تاريخ المغرب السياسي؟ كيف تنظر إلى دور الفقيد في هذا المسار؟
هذا محور يستحق كتابة خاصة ومستقلة، اعتبارا لضخامة ما تم إنجازه في مرحلة قيادته لحكومة التناوب، والتي لم تنصف إعلاميا للأسف، ولعل من العناوين الكبرى لتلك النتائج، استعادة بلادنا للثقة في إمكانياتها واستعادة قرارها السيادي المالي، بعد النجاح في تقليص المديونية الخارجية والداخلية. ثم توظيف تقنية الخوصصة كي تكون مجالا لشفافية الصفقات وموردا ماليا هاما جدا وظفت مداخيله  للاستثمار وليس للتسيير، من خلال فكرة إنشاء صندوق مستقل للتنمية هو صندوق الحسن الثاني للتنمية، الذي بفضله أنجزت المشاريع الكبرى المهيكلة للبنية التحتية لبلادنا (من قبيل ميناء طنجة المتوسطي/ شبكة الطرق السيارة/ كهربة العالم القروي/ تعميم الماء الشروب/ تعميم التعليم في العالم القروي... إلخ). ثم وضع رزنامة من الإصلاحات المهيكلة على مستوى قطاعات الأبناك والتأمين والجمارك والنقل الجوي والموانئ والتقاعد والتغطية الصحية الإجبارية، أعادت هيكلة منظومة الإنتاج المغربية بالشكل الذي مكن من تنويع النسيج الإنتاجي المغربي والتحرر من ارتهانه إلى منظومة المواسم الفلاحية ومواسم الجفاف. مثلما مكن المغرب من التوفر على احتياطي من العملة الصعبة غير مسبوق منذ 1960، وجعل الشفافية ميزة للمنظومة المالية للمغرب، ما دفع مؤسسة مثل البنك الدولي تكتب في أحد تقاريرها السنوية في بداية الألفية الجديدة جملة دالة تقول "اليوم يمكن القول إن المالية المغربية لم تعد إفريقية" أي أنها ارتقت إلى المستوى العالمي للشفافية المالية. وهذا كله شجع الاستثمار وجلب الرأسمال العالمي إلى بلادنا، التي منحها ثقة دولية غير مسبوقة.

6 ـ ما تعليقك على إجماع جميع الأطياف وتنظيمات المجتمع على حكمة وتضحيات الفقيد؟
هذا عنوان على مدى أهمية امتلاك رجل السياسة للمصداقية، التي تعتبر رأسمالا لا ينضب أبدا. مثلما يقدم الدليل، من خلال سيرة الرجل وشكل تفاعل المواطنين والفاعلين مع سيرته السياسية والسلوكية والقيمية تلك، على أن ممارسة الفعل العمومي تحت سقف أخلاقي أمر حاسم في إعطاء نبل للعمل السياسي، واليوسفي نموذج لمدرسة مغربية مارست الفعل العمومي من موقع التربية الوطنية المسنودة بالمعرفة والتحليل الملموس للواقع الملموس، أي من موقع الكفاءة. ذكاء الناس لا يخطئ أبدا عناوين الجدية والمصداقية تلك، بالتالي على قدر ما أعطى الرجل من جهد مؤطر بهذه المنظومة الأخلاقية والسلوكية، على قدر ما رد له الجميع، من مختلف الأطياف والمواقع (سواء في الدولة أو في المجتمع)، جميل التقدير والإحترام والإعتراف الذي يستحقه عاليا. وهذا يشكل درسا للجميع في مجتمع يعيش تحولات هائلة مثل مجتمعنا وبلادنا.

7 كنت مقربا من المرحوم عبد الرحمان اليوسفي كيف بصم مسارك المهني الصحفي؟
اليوسفي رحمه الله، بصم مسار الكثيرين مهنيا وليس مساري وحدي،. أشكر الله أن قيض لي في مساري الحياتي والمهني أن أحتك بقامة رجل دولة من طينته، لأن ذلك أشبه بمن يغرف من بئر تجربة حياتية ومعرفية ذات ماء زلال، ومن الدروس الكبرى التي بصمت جيلنا الذي اشتغل تحت خيمته المهنية، هي الإنتصار دوما لرأسمال العملي الصحفي، الذي هو المصداقية، وأننا جربنا فعليا، من خلال العمل معه كقائد سياسي حزبي ثم كمسؤول حكومي على رأس الإدارة المغربية، معنى "حرية التعبير"، التي من حيث أنه يمنحها لك في ممارسة دورك المهني، يقلدك بشكل غير مباشر ثقل مسؤولية ممارسة تلك الحرية. 
وقد ساهم ذلك في إنضاج دورنا ووعينا بدورنا المهني، لم يمارس الرجل أبدا الرقابة القبلية على دورك الصحفي، ولم يكن أبدا رقيبا، من موقع وعيه الحقوقي العالي، لكنه كان محاسبا صارما للأخطاء المهنية التي تضرب أخلاقيات المهنة، فهو مدرسة قائمة الذات في المجال الإعلامي والصحفي، مدرك لأهمية دور الإعلام في صناعة الرأي العام وفي إنضاج النقاش العمومي وفي حماية العمل المؤسساتي الديمقراطي وحقوق الناس.




تابعونا على فيسبوك