خاطرة بطعم الألم... حكيم وردي يكتب "القاضي والسرطان"

الصحراء المغربية
الجمعة 20 يوليوز 2018 - 18:19

في هذه المقالة التي كتبها الأستاذ حكيم وردي، عضو نادي قضاة المغرب، تحدث فيها عن "القاضي والسرطان"، هذا المرض اللعين الذي ينخر في أحايين كثيرة جسد القاضي أو القاضية في صمت بدون دعم حقيقي من هيئات التعاضد. خاطرة القاضي وردي التي كتبها "إلى القضاة الذين أفناهم السرطان ولم يجدوا ثمن الدواء.... وإلى الذين ينتظرون الموت به دون أمل في الشفاء"، ننشرها للتذكير أن هناك حاليا 10 قضاة مرضى بالسرطان يعانون مع واجبات الاستشفاء مع التعاضديات"، متوجهين بالسؤال مع الأستاذ وردي "هل من المعقول أن يقتطع من أجر القضاة لسنوات وعندما يمرضون لا يجدون ثمن الدواء؟"


"القاضي والسرطان"

حكيم وردي 
عضو نادي قضاة المغرب


"كثيرا ما ردد على مسمعي من حنكتهم التجارب وعركتهم النوائب، أن الإدارة آلة صماء باردة المشاعر، بقدر ما تهبها من الجهد والعناء بقدر ما تصدك بالجحود والجفاء.
الإدارة لا ترى فيك سوى رقم تأجير وقطعة غيار، تستنزف مادتك الرمادية، وتنفضك كما ينفض السجاد من الغبار.
وفي القضاء تكون المأساة أفدح والحصيلة أقبح. يلج الواحد منا المعهد في ميعة الشباب، موفور الصحة هانئ البال، بحماس متقد وكبير الآمال، يستعين بقرض الأهل والصحاب لمجابهة الصعاب. يسلخ حولين من عمر البداية بحتا عن هوية ضائعة. وبين جدران المعهد الباردة ومحاكم التمرين الشاردة، يترقب قدر التعيين بوجه شاحب وبجسم يعلوه الهزال، 
وبأجر هزيل يلوح به في الأقاصي، يطوي الطريق نحو المجهول، ويضطرب إيقاع حياته بين الملفات الملونة التي لا تنتهي، يصرف النهار في المحكمة، والليل في التحرير. ولأنه حديث الانتماء، طري العود، تنهال عليه الجلسات المنبوذة، والملفات المفقودة، وتنفجر المفارقات اللعينة أمام ناظريه، عمل كثير وأجر قليل، كثرة في الأشغال وسوء في التوزيع، فيتحول إلى عبد للمتقاضين، يحمل مشاكلهم بين ضلوعه، ينام على الوقائع ويصحو على الحيثيات. ورغم هيلمان السلطة وعبارات المديح والتزلف التي ينثرها عليه ذوو الحاجات، إلا أن بريقها الزائف سرعان ما يخبو لينتهي به المساء جثة هامدة في حجرة باردة أمام وجبة رديئة وعشرات من الأقضية التي إن أبطأ في حلها عالجه المسؤول باستفسار، أو باغته المفتشون بدون إشعار.
ولأن عمل المحاكم لا يعرف البوار، فقدر القاضي المغربي أشبه بقدر سيزيف، إن لم يكن أكثره مأساوية، يصدق عليه المثل الدارج (ديالي ما بقا ووجهي ما تنقا)، يحقد عليه جزء من المجتمع بعماء غير مقبول ويعاديه بشكل مجاني، فيجد نفسه فريسة لمشاعر متناقضة: العمل بجد إرضاء لنداء الضمير، الالتزام بالنزاهة رغم كثرة المغريات وقلة ذات اليد، الاستعداد للدسائس، والوشايات الجبانة، التعبير في صمت سدا للذرائع واتقاء للزوابع...
المهم تجرع خيباتك وتألم في صمت وبدون أنين.
وطيلة المسار لن تنجو من المصائب، فقد قتلت الطريق العديد من القضاة، التهمهم الاسفلت في رحلة الشتاء والصيف، مثلما لن تسلم من همزات الشياطين: (شياطين الإنس طبعا) .... سيأكل الهم والصلع ثلاث أرباع رأسك، سيتقوس ظهرك من فرط التحرير، سيضمر بصرك، ستغدو زبونا مفضلا لدى أطباء الضغط، والسكري، أما إذا لا قدر الله داهمك المرض اللعين: فستعرف حقيقة الإدارة، التي ستسقطك من حسابها في أول حصة لـ "شيميو".
أفجعني ما نقلته إحدى الصحف عن معاناة زميلنا المرحوم الأستاذ محمد الكوهن قاضي التحقيق باستئنافية الرباط، الذي أطلق صيحة مدوية عن جحود الإدارة التي لم تتورع عن قضم أجرته بنفس الشراسة التي يفتك به المرض اللعين، القاضي الذي استبسل في فك طلاسيم ملفات شائكة، وأسهر الليالي، واشتغل بدون كلل أو ملل، يجد نفسه في لحظة غدر من الزمن الرديء فريسة لمرض السرطان، بدون دعم أو سند، بل حتى أجرته التي يضمن له القانون الحق في الاستفادة منها كاملة لمدة لا تقل عن 3 سنوات، تأبي الإدارة المتحجرة المشاعر إلا أن تخضعها للاقتطاع، وكأن الرجل في رحلة قنص. وليس في رحلة استشفاء.
والذي يزيد المشهد قتامة أن صيحتنا ذهبت أدراج الرياح وأسلم الأستاذ الكوهن الروح لبارئها مثلما أن العديد من القضاة تركوا لمجابهة مرضهم اللعين في صمت وأن الكثيرون اليوم يحتضرون في حضرتنا جميعا ولا من يمد يد الأخوة.
مخز حقا هذا الجحود الذي يجابه به القضاة صرعى الأمراض والأوبئة. مخز حقا أن نمرض ولا نجد ثمن الدواء".
 




تابعونا على فيسبوك