شهد رياض الحاج أحمد مكوار، قبالة متحف البطحاء بفاس الجديد، كما يشهد على ذلك التاريخ، اتصالات ولقاءات سرية لرواد الحركة الوطنية مع القصر الملكي على امتداد سنتين لتتوج في 11 يناير 1944 بتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال وعرضها على أنظار السلطان محمد الخامس.
في هذا المنزل الذي يعبق في عمق التاريخ الوطني وقع رواد الحركة الوطنية على وثيقة المطالبة بالاستقلال، وهو ما شكل آنذاك نقلة نوعية في العمل الوطني.
بهذا الرياض الأصيل بعمارته الفاسية، اجتمع زعماء الحركة الوطنية لتحرير وثيقة المطالبة بالاستقلال، ومعها وهب مالكه الحاج أحمد مكوار صالون وغرف منزله لاستقبال زعماء الكتلة الوطنية والاتصال بالقصر الملكي.
في هذا الإطار واحتفالا بالذكرى 62 لتقديم الوثيقة، قالت نجية مكوار كريمة الحاج أحمد مكوار في حديث لـ "الصحراء المغربية" أن صاحب الجلالة الملك محمد السادس لما كان وليا للعهد، قام سموه في 11 يناير 1994 بزيارة تفقدية لهذا المنزل رفقة أعضاء من الحركة الوطنية الموقعين على الوثيقة، والتي أزاح على إثرها جلالة الملك الستار عن النصب التذكاري المخلد للذكرى الخمسينية لتوقيع هذا الحدث الوطني البارز.
وأكدت في هذا الصدد رغبة محمد غرابي والي الجهة الذي عاين المنزل احتفاء بالذكرى الخمسينية لعودة المغفور له محمد الخامس من المنفى بتحويله إلى متحف وطني لتاريخ الحركة الوطنية، وإعادة ترميمه وفتحه في وجه العموم، اعتبارا لما لعبه من دور ريادي في صنع حدث الاستقلال، مشيرة إلى أن القلم الذي وقعت به وثيقة المطالبة بالاستقلال مازال ضمن محتويات المنزل إلى جانب المذياع الذي كان خير معين لرجال الحركة الوطنية في التقاط الأحداث الوطنية والدولية.
وأوضحت نجية مكوار أن بيت والدها الحاج مكوار استقبل عظماء الحركة التحررية بإفريقيا وآسيا على رأسهم الحبيب بورقيبة وسنكور وفرحات حشاد، مبرزة أن زيارتهم لمدينة فاس للالتقاء كانت تفرض على هؤلاء زيارة هذا الرياض، والإقامة به للالتقاء بزعماء الحركة الوطنية بالمغرب،
وأضافت قائلة "مازلت أتذكر اللحظة التي قام فيها والدي بحملي تحت سلهامه متوجها إلى الدارالبيضاء، في محاولة منه جمع تبرعات وتوقيعات تجار وصناع المدينة تؤيد وتدعم توقيع الوثيقة التاريخية، كما لم أنس لحظة التقى فيها والدي بشقيقي في الدار البيضاء دون أن يعرف أنه ابنه لشدة الحماس الذي كان يشغله عن أبنائه وأسرته"
من جهة أخرى، كان أنيس بلفريج، ابن أحد أبرز وجوه الحركة الوطنية الحاج أحمد بلفريج، أوضح في إطار تخليد الذكرى الخمسينية لعودة المغفور له محمد الخامس من المنفى وعيد الاستقلال، "أن والده لم يكن ليبرح منزل الحاج أحمد مكوار، كلما حل بفاس للتنسيق في شأن إعداد وثيقة المطالبة بالاستقلال التي تطلبت عامين من الاتصالات واللقاءات المتواصلة، مشيرا إلى أن هذا البيت كان يشهد طوال الليل والنهار لقاءات واجتماعات بين قادة حزب الاستقلال لتهيئ العريضة كما روى له والده في منفاه بكورسيكا".
ويتذكر أنيس عن والده ذكريات الأشخاص الذين كانوا يأتون إلى منزل الحاج أحمد مكوار للاجتماع بوالده أحمد بلفريج واصطحابه إلى القصر الملكي سرا للاتصال مع جلالة الملك محمد الخامس طيب الله ثراه.
وعند تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال تحدث ابن المجاهد أحمد بلفريج "عن أن وفود العريضة المشكلة من 66 من رواد الحركة الوطنية خرجوا من هذه الدار للتوجه صوب القصر الملكي بهدف عرضها على أنظار الملك الشرعي للمغرب".
ويروي بلفريج "أنه مباشرة بعد تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال احتجت سلطات الحماية الفرنسية، فأطلقت العنان لحملة مداهمات مسعورة لمنازل الوجوه البارزة في التوقيع على العريضة شملتها موجة اعتقالات في صفوفهم بمن في ذلك والده، ومحاصرة منزل الحاج مكوار الذي وقعت به الوثيقة، وكان ذلك يوم 29 يناير 1944، الأمر الذي حذا بالجماهير المتعطشة للحرية إلى الرد على هذا الإجراء القمعي بتفجير المظاهرات في الرباط وسلا وفاس والدارالبيضاء وغيرها .
ما دفع بجيش الاحتلال الفرنسي إلى التفنن في ارتكاب حمامات الدم واقتراف مجازر رهيبة سقط على إثرها عشرات الشهداء في ساحة الشرف«، وهي أحداث مازالت عالقة في ذهن أنيس بلفريج كما كان يرويها له والده .
ويحكي الهاشمي الفيلالي، أحد جلساء أحمد بلفريج في هذه المرحلة الصعبة من تاريخ الكفاح الوطني، "أنه في 29 يناير من السنة نفسها ألقي القبض عليهما رفقة الحاج أحمد مكوار وعبد العزيز بن إدريس في الواحدة ليلا بعد تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال"، مضيفا "أن الفرنسيين أرادوا أن يجعلوا منهم شهداء هذه المعركة للمطالبة بالاستقلال بالحكم عليهم بالإعدام، وهو ما كانت أعلنت عنه الإقامة العامة الفرنسية لدى صدور بلاغ لها صبيحة اليوم ذاته بدعوى أنه جرى إلقاء القبض عليهم بتهمة عرقلة المجهود الحربي والاتصال بالأجنبي، ومن ثمة الزج بهم في سجن لعلو بالرباط".
وحسب كريمة الحاج أحمد مكوار، الذي رهن داره لهذا العمل البطولي، قالت نجية مكوار إن والدها عاصر فتنة بوحمارة وتوقيع معاهدة الحماية في 30 مارس 1912 وأحداث فاس الدامية الواقعة بعدها مباشرة، موضحة أنه ساهم في تأسيس مدارس حرة بفاس لأجل استفادة أبناء المغاربة من حقهم في الدراسة بعد أن جارت في حقهم الحماية من ضمنها مدرسة سيدي بناني سنة 1919 ومدرسة النجاح سنة 1920 .
وذكرت أنه عند اندلاع الحرب التحريرية بالريف ضد الاستعمار الإسباني بقيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي قام الحاج مكوار حينها بدعاية وطنية لفائدة نصرة المجاهدين المغاربة فيها، وأنه في سنة 1925 تعرف مكوار على الزعيم الاستقلالي علال الفاسي وتوطدت علاقتهما، وفي سنة 1930 قام الحاج مكوار بدور مهم لمناهضة الظهير البربري وكان عندها من المشجعين على قراءة اللطيف في جامع القرويين.
وتحدثت عن أنه عند تطويق الحماية الفرنسية لمدينة فاس ومحاصرتها وإعلانها حالة الطوارئ، اختير الحاج أحمد مكوار كاتبا للجنة المكلفة بالمفاوضات مع الإدارة الفرنسية لإزالة الإجراءات الاستعمارية المفروضة على مدينة العلم والشرفاء، وترؤسه لوفد مثل بين يدي المغفور له محمد الخامس لأجل تنسيق العمل الوطني مع جلالته طيب الله ثراه انطلاقا من داره بفاس.
وابتداء من عقد الثلاثينات من القرن الماضي، أكدت نجية مكوار على أن والدها أسهم في إنشاء وتمويل مجلة "مغرب" التي كانت تصدرها كتلة العمل الوطني بمساعدة نخبة من اليسار الفرنسي التي كانت مؤيدة للقضية الوطنية، إلى جانب مساهمته في تمويل جريدة "عمل الشعب"التي كانت تصدر في فاس باللغة الفرنسية .
ومن بين إسهاماته كما تشير إلى ذلك نجلته، أنه لعبا دورا بارزا في إعداد مطالب الشعب المغربي من خلال التهيئ باستقبال رواد كتلة العمل الوطني بمنزله، إلى جانب انتخابه عضوا في اللجنة التنفيذية لكتلة العمل الوطني سنة 1936 .
وذكرت في الإطار ذاته أنه جرى اعتقال والدها في أكتوبر سنة 1937 ونفيه إلى الراشيدية ثم أسول وبودنيب، إذ قضى حينها ثلاث سنوات في السجن إلى أن أفرج عنه سنة 1940، بعد سقوط فرنسا تحت الاحتلال الألماني في الحرب العالمية الثانية، ليواصل كفاحه الوطني وكان من ضمن نشطاء الحركة الوطنية،
إلى جانب إسهامه في التوقيع على وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، انطلاقا من رياضه الذي كان مركزا للاجتماعات التي أعدت وصيغت من خلالها الوثيقة التاريخية، مما دفع بسلطات الحماية آنذاك لإلقاء القبض عليه في 22 يناير 1944 انتقاما منه على دوره الحيوي في صنع ذلك الحدث، إذ سجن بحسب كريمته دائما في معتقل لعلو بالرباط إلى جانب رفاقه الموقعين على العريضة قبل أن تجري عملية نقله إلى مكناس لوضعه تحت الإقامة الإجبارية.
وتتذكر أيضا أن سلطات الحماية ألقت القبض عليه من جديد في أحداث 1952 ليجري إبعاده من جديد إلى الريش وكولميم، وظل رهن الاعتقال إلى غاية أكتوبر 1954، وبعد الاستقلال أفصحت عن انتخاب والدها عضوا في مجلس النواب سنة 1963 وفي الغرفة التجارية والمجلس البلدي بفاس إلى أن وافته المنية بفاس في 12 فبراير 1988 عن عمر يناهز 96 عاما.