غروتوفسكي ظاهرة فريدة ومتميزة في المسرح المعاصر، تستحق البحث العميق، القراءة المتأنية والمشاهدة الذكية.
ولد غروتوفسكي عام 1933 في بولندا ودرس التمثيل والإخراج فيها، وعمل مخرجا لأعمال مسرحية كثيرة منها : الكراسي، الخا ل فانيا ، دكتور فاوست، النمل الأبيض، الأمير الجلد وغيرها.
يقول المخرج الايطالي ايوجينو باربا " إذا كان هناك شخص أعتبره أستاذي، فإن هذا الرجل سوف يكون غروتوفسكي، فهو الذي قدمني لهذه المهنة، وأنا أكن احتراما شديدا لما يفعله، فأفكاره الأساسية وأسلوب عمله ووعيه المهني تمثل لي تحديا مستمرا"
وحسب المتتبعين لتجارب غروتوفسكي فإنه من الصعب الحديث عن مسرحه دون مشاهدة تجاربه العملية على صعيد التدريبات اليومية القاسية لفن الممثل أو الخوض في تجسيدها تجريبيا.
ويؤكد الباحثون انه كان لا يشبه أحداً في حياته الفنية أو حتى في مماته، ضد السائد والمألوف في المسرح، مسكوناً بالجسد وطقوسه، مسحوراً ومهووساً بالشرق وأسراره ، سافر إلى الهند والصين ليرى الأساطير عن قرب والى تركيا لُيشارك في طقوس المولانية ويرى الصوفية التي تعتمد على الرقص وحركات الجسد ـ ما يعرف بالدروشة ـ حتى تصل الى حالة التجلي في لحظات غياب الوعي تماما.
وذكرت بعض المصادر أنه مصطلح " المسرح الفقير" يحيلنا بسرعة إلى إسم غروتوفسكي، لقد أرتبط هذا المصطلح به، والمصطلح لا يعني ان مسرحه فقير بالمعنى التقليدي لكلمة الفقر، بل إنه غني ومشع بتركيزه على أهمية الممثل وعلاقته بالجمهور وتأكيده على القدرات التعبيرية الجسدية والصوتية.
مسرح غروتوفسكي الفقير يسعى الى تقديم الممثل جسداً خالصاً مجرداًَ من كل الإضافات المتمثلة بالاكسسوارات والديكور والمؤثرات التكنولوجية وغير ذلك
المسرح عنده أشبه بالطقس الديني لكنه في الوقت نفسه يسمو به ليصل حد التطهير، وكان يصر على ألا يتجاوز عدد المشاهدين الأربعين او الخمسين لكي يسهل تعريضهم إلى أقوى تأثير بدني مباشر يصدر عن الممثلين.
يقول المخرج العالمي بيتر بروك : " إذا كنت مهتما بمعرفة ما وصل إليه غروتوفسكي فاذهب الى بولندا، أو افعل مافعلناه، أحضر" غروتوفسكي إليك".
لقد كان غروتوفسكي أول من دعا الى أستخدام مصطلح " أنثروبولوجيا المسرح«، واراد من خلاله أن يركز على العودة للجذور الدينية والشعبية وتجلياتها المسرحية في الثقافات المختلفة.
وهو ما تطور في ما بعد بجهود المخرج الإيطالي أيوجينيو باربا, تأثر غروتوفسكي بمسرح انتونان أرتو وأسلوبه وطوره في مختبره التجريبي الذي يعتمد بشكل مباشر على تقنية جسد الممثل، " وغروتوفسكي، مثل أرتو، يؤمن بأن المسرح قوة ميتافيزيفية يمكن تسويغها فقط حينما يمكنها، بكل صدق، القيام بما يمكن أن يكون تغييرا أو تحويلا في حياة كل من الممثلين والمشاهدين على حد سواء.
كان غروتوفسكي يطلب من فرقته التمثيلية التكريس المخلص الذي يرقى إلى ما كان يدعو اليه أرتو وهو الإنغماس الحقيقي في المسرح كونه شعيرة مقدسة وممارسة شبه دينية ومثل ارتو اعتاد غروتوفسكي إستخدام الرقي واستخلص من الجسم البشري الحد الأعلى من التعبيرية .
كما يعبر مارتن أيسلين في كتابه عن أنتونان أرتو ففي الرابع عشر من يناير من عام 1999 نشرت الصحف ووسائل الإعلام في كل مكان نبأ رحيل المعلم ،الكاتب والمخرج المسرحي البولندي يرزي غروتوفسكي الذي توفي في مدينة بونتديرا الايطالية، ودُفن في مدينة اورانا تشالا في الهند لينام هادئاً مطمئناً تحت تراب سحر الشرق، بناءً على وصيته، وكُتب على قبره حوار من مسرحية " اكروبولس" : " ستبقى من بعد بقايا فولاذ، وضحكات ساخرة من أجيال صماء"، لقد غادر تروتوفسكي تاركاً وراءه مسرحه الفقير وروحه الثرية.