هل مجتمع حقوق الإنسان ممكن؟ / محمد وقيدي

الخميس 26 يناير 2006 - 16:55

يبدو لمن يفكر في مضمون النصوص المتعلقة بحقوق الإنسان أن المواثيق المتوافق عليها تتعلق بمجتمع مثالي تصبو الإنسانية اليوم إلى بلوغه، وتعمل جاهدة عبر تضامن دولي لإنجاز الشروط التي تجعله واقعا يعيشه الإنسان في حياته اليومية.

ونظاما يحكم العلاقات التي تقوم بين الناس في كل جماعة بشرية ويسود في العلاقات بين المجتمعات المختلفة على عدة أصعدة.
ولن ننكر الطابع المثالي للحديث عن حقوق الإنسان، لأننا لانستطيع في أية جهة من العالم الحديث عن أي مجتمع تكون فيه حقوق الإنسان متحققة بصورة تامة أو الإشارة إلى مجتمع تظهر حقوق الإنسان بصورة كاملة في علاقاته بما عداه من المجتمعات
فتاريخ الإنسان في كل جهات العالم مليء بالسلوكات والتوجهات التي تمس، قي العمق أحيانا، تصور الإنسان لذاته بوصفه القيمة الأسمى في الكون.

ولكن موافقتنا على الوصف بالمثالية لمجتمع حقوق الإنسان لايتنافى لدينا، كما سنحاول توضيحه، مع الإمكانية التي نراها قائمة لدى إنسانية اليوم للسير بصورة متدرجة نحو تحقيق الشروط اللازمة للعمل في كل مجتمع بمقتضى حقوق الإنسان.

من جهة أخرى، عندما أشرنا في السابق إلى أن صدور الميثاق العالمي المتعلق بحقوق الإنسان كان لحظة نضج بالنسبة للإنسانية نظرا لما يمثله من توافق بين مكوناتها حول اعتبار الإنسان هو القيمة الأسمى، ذلك كان يعني لدينا الإشارة إلى لحظة تحقق فيها وعي بأن العمل بمقتضى حقوق الإنسان لازم للحفاظ على القيمة التي يتصورها الإنسان لذاته وممكن لأن الإنسان الذي تتعلق به تلك الحقوق قادر على توفير الشروط.

الموضوعية لذلك إمكان حقوق الإنسان أمر يعبر عنه تعلق الإنسانية بأمل تحققها وسعيها الدائم منذ منتصف القرن العشرين من أجل شيوع العمل بها في كل بلدان العالم، وذلك عبر المجهود الذي تبذله المنظمات الدولية وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة، وعبر السعي الذي تقوم به الجمعيات التي توجد في جهات مختلفة من العالم مخصصة جهدها لبلوغ تلك الغاية الإنسانية تأمل في قيام مجتمع حقوق الإنسان لأنها، في نظرنا، ترى فيه المجتمع الذي يحقق لها القيمة التي تراها لنفسها ولأنها ترى أنها قادرة على إنجاز الشروط التي تجعل قيامه أمرا واقعيا.

من جهة الاتجاه الذي صار فيه تحليلنا لوضع حقوق الإنسان في العالم المعاصر، بيا أن العمل بمقتضى حقوق الإنسان ممكن عبر مجهود الإنسان نفسه من حيث هو أسمى قيمة في الكون، وذلك تطابقا مع هذه القيمة نفسها.

وإذا كان الممكن يشير بصفة واضحة إلى المستقبل، فإن بحثنا اتجه إلى فحص ما تستطيع الإنسانية القيام به لضمان مجتمع إنساني واقعي مقبل تكون فيه حقوق الإنسان المعمول بها معيارا لمطابقة الإنسانية لذاتها وعلامة على نضجها المقترن بوحدتها من حيث استحقاقها بمساواة ودون تمييز لكل الحقوق التي تضمنتها المواثيق العالمية في هذا الشأن.

لنبحث الآن في صفة الإمكان بالنسبة لمجتمع حقوق الإنسان بالنسبة لما يعارض هذه الصفة، وذلك حتى نتمكن عبر المقارنة بين المتعارضات عما يسمح لنا بالقول إن إمكانية ذلك المجتمع أمر واقعي وأن الأمل فيه حق مشروع للإنسانية.
ومن الصفات التي تعارض إمكانية أمر ما أن يكون ذلك الأمر مستحيلا، أي غير قابل للتحقق في جميع الأحوال.

ولكن الإنسانية لايمكن أن تتعلق جميعها بأمل يكون مستحيل التحقق، ولا يمكن أن تتوافق على مبادئ تتعلق بأفعالها المتعلقة بحياتها إذا كانت ترى أن تلك المبادئ مستحيلة.
ليس مجتمع حقوق الإنسان كما تنظر إليه إنسانية اليوم مستحيلا، بل هو ممكن
ما يجعل التفكير في مجتمع حقوق الإنسان بوصفه مستحيل التحقق هو النظر في ماضي الإنسانية الطويل، حيث لم يكن ذلك المجتمع ممكنا بسبب الشروط المضادة لتحققه.

والانتقال من النظر إلى مجتمع حقوق الإنسان بوصفه مستحيلا إلى ذلك المجتمع نفسه بوصفه ممكنا يقتضي أن يكون هناك بحث مستمر عن العوائق التي عاقت حقوق الإنسان في الماضي عن أن تكون المعيار المشترك الذي يوجه أفعال الإنسان إزاء الإنسان في شخص الغير فردا وجماعة. نجمل التعبير عن عوائق حقوق الإنسان في الميل إلى التدمير.

فهناك دائما بالنسبة للفرد وللأمم أيضا مايدفع نحو الاتجاه نحو تدمير الإنسانية في الغير الذي هو في عمقه تدمير للذات أيضا، وذلك باعتبار وحدة النوع الإنساني من حيث استحقاق كل ذات فردية فيه للتمتع بحقوق الإنسان الواردة في المواثيق العالمية
تاريخ الإنسانية في هذا المستوى مليء بالحروب والنزاعات المدمرة التي كانت باستمرار إطارا ملائما لاختراق حقوق الإنسان كلها.

وأهمها حق الإنسان في الحياة وكانت هذه الحروب بين أمم متجاورة، كما كانت كذلك بين أمم متباعدة، بل وعرفت المجتمعات الإنسانية في مختلف جهات العالم صراعات مدمرة داخل كل مجتمع بين مكوناته التي قد تختلف أصولها العرقية أو الدينية أو الإيديولوجية أو الثقافية.

وكانت هذه الحروب الداخلية بدورها مجالا لسيادة السلوكات المضادة لاحترام حقوق الإنسان يصبح مجتمع حقوق الإنسان ممكنا بقدر ما ينمو الوعي بالعوائق التي اعترضت في تاريخ الإنسانية قيامه.

ويصبح ذلك المجتمع ممكنا أيضا بقدر ما تتزايد لدى الإنسانية المعاصرة التوجهات في مجال السياسات المشتركة، أي على صعيد المنظمات الدولية، من أجل جعل العمل بمقتضى حقوق الإنسان واقعيا ومرجحا لما يحفظ حقوق الإنسان أكثر مما يسمح باختراقها.

يتعلق مجتمع حقوق الإنسان بالمستقبل أكثر مما يتعلق بالماضي المليء بمضاداتها، ولكن هذا لايدفعنا إلى التركيز على الخطوات اللازمة في المستقبل فحسب، بل لابد أيضا من اعتبار الماضي ضمن تحليلنا لأنه يتضمن مجموع العوائق التي عاقت قيام ذلك المجتمع.

ذلك أنه سيكون على إنسانية اليوم أن تعمل على تجاوز كل أنواع الاختراق التي كانت في الماضي يصبح مجتمع حقوق الإنسان ممكنا عبر الأمل في قدرة الإنسانية على ألا تجعل نزوعها نحو التدمير متغلبا على مطلبها في تحقق حقوق الإنسان.

ونخرج من الإطار العام الذي كنا فيه لنبحث في اللاحق في الخطوات التي نرى ضرورة اتخاذها للسير في طريق جعل مجتمع حقوق الإنسان أمرا واقعيا يلمسه الأفراد، كما تلمسه الشعوب، في الحياة الإنسانية اليومية.

1 ـ سيكون على الإنسانية أن تتوافق أكثر من أي وقت مضى حول ما يضمن السلام في العالم، وذلك لأن السلام كما بينا في السابق هو أعم الشروط بالنسبة للعمل بمقتضى حقوق الإنسان.
فضد السلام، وهو حالة الحرب والصراعات المختلفة التي تكون لها كذلك دوافع داخل المجتمعات أو في العلاقات بينها، لايكون وفقا لشروطه الخاصة إلا إطارا لغياب حقوق الإنسان.
لايعني السلام ضمان حقوق الشعوب فحسب، بل إنه يضمن أيضا حقوق الأفراد من حيث إنه يضمن الحفاظ على حق أساسي هو الحق في الحياة.
كما أن السلام العالمي يساعد على العمل المشترك من أجل تلبية كل الحاجات الحيوية التي تضمن صحته وتقيه من الوقوع في المجاعات.
فالإنسانية المتضامنة من أجل العيش في سلام هي التي تضمن الشرط اللازم لحقوق الإنسان.

2 ـ الخطوة الثانية التي تساعد المضي أماما في طريق العمل بمقتضى حقوق الإنسان هو سيادة النظام الديمقراطي في المجتمعات.
ونرى أنه بإمكاننا القول إن الديمقراطية في المجتمع هي بمثابة السلام داخل كل مجتمع بين مكوناته المختلفة.
فغياب الديمقراطية يعني مباشرة غياب كثير من الحقوق ومنها غياب حق الشعوب في اختيار حكامها وفي تقرير مصيرها، وحق كل مكونات مكونات المجتمع في العدالة والمساواة أما إدارات بلدهم وأمام المحاكم، وفي التمتع بمساواة بكل شروط الحياة الإنسانية.

3 ـ الخطوة الثالثة الأساسية هي التضامن من أجل استغلال التقدم العلمي والتقني الذي تحقق للإنسانية خلال القرن العشرين بصفة خاصه لتوجيه نتائجه واكتشافاته لما يضمن تحقيق الشروط التي تلزم لكرامة الإنسان وحياته وصحته وتغذيته.
وسيكون ذلك مضادا لاستخدام التقدم العلمي لما يسمح، على العكس من ذلك، بالقضاء على الحياة الإنسانية أو بإلحاق أفظع الأضرار بها.

إن هذه الشروط إذا تحققت بفضل التضامن الدولي حولها هي الكفيلة بجعل مجتمع حقوق الإنسان ممكنا، لا من حيث الإمكان الذهني فحسب، بل من حيث الإمكان الذي يصبح واقعا يعبر عن نضج الإنسانية ووحدتها ويجعلها مطابقة لذاتها من حيث هي قيمة أسمى.




تابعونا على فيسبوك