تشهد منظومة العدالة بالمغرب تحولا عميقا يواكب الدينامية التكنولوجية العالمية، حيث يشكل إدماج الرقمنة والذكاء الاصطناعي رهانا وطنيا من أجل تجويد الأداء القضائي، وتحقيق عدالة أكثر شفافية وفعالية وإنصافا. وفي هذا الصدد، جاءت ندوة "استثمار التكنولوجيا الحديثة في المجال القضائي: الفرص والتحديات"، التي نظمها المجلس الأعلى للسلطة القضائية، أمس الاثنين، في إطار برنامجه التواصلي ضمن فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب، المنظم بالعاصمة الرباط.
وأجمع المتدخلون، في هذه الندوة العلمية، على أن التحول الرقمي لمنظومة العدالة المغربية ومواكبتها للتحولات التكنولوجية، يأتي في سياق وطني يراهن فيه المغرب على تحديث الإدارة القضائية وتحسين خدماتها، تماشيا مع مقتضيات الدستور المغربي الذي ينص على حق المواطنين في الولوج إلى العدالة في آجال معقولة، وتفعيلا للتوجيهات الملكية السامية الداعية إلى إصلاح عميق وشامل لمنظومة العدالة.
كما أكد المشاركون على أن التحول الرقمي في قطاع العدالة بالمغرب أصبح ضرورة ملحة تقتضي تضافر جهود جميع الفاعلين، وفتح أوراش تكوين مستمر في مجال التقنيات الحديثة، مع سن تشريعات مواكبة للتطور التكنولوجي، وذلك لضمان تحقيق عدالة ناجعة، شفافة، وشاملة، تضع المواطن في صلب اهتماماتها.
الرقمنة في قلب إصلاح العدالة
في كلمته الافتتاحية، شدد أحمد الغزلي، عضو المجلس الأعلى للسلطة القضائية، على أن الأنظمة القضائية الحديثة تراهن بقوة على التحول الرقمي كمدخل لرفع النجاعة وتقوية الشفافية، وتسهيل الولوج إلى العدالة، لما توفره التكنولوجيا من إمكانات لفائدة القضاة والمتقاضين وباقي المتدخلين في المنظومة.
وأشار إلى أن المعايير الدولية الحديثة لقياس فعالية الأنظمة القضائية، تعتمد على مدى توظيف هذه الأخيرة للتكنولوجيا في تسيير القضايا والإجراءات، مما دفع المغرب إلى تسريع وتيرة التحول الرقمي عبر إطلاق بوابة المحاكم الإلكترونية، والنظام الرقمي لتدبير الملفات، وكذا بوابة نشر الاجتهادات القضائية.
استراتيجية رقمية ثلاثية الأبعاد
بدوره، أبرز يوسف أستوح، رئيس قطب التحديث والنظم المعلوماتية بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، بعد استعراضه مختلف مراحل المخططات الرقمية، أن استراتيجية التحول الرقمي بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية تتمثل في تكريس تنمية رقمية شاملة ومندمجة، وترتكز على ثلاثة أبعاد أساسية:
1: على مستوى المجلس: اعتماد نظام رقمي مندمج داخلي.
2: على مستوى المحاكم: تتبع مشاريع بلوغ المحاكمة الرقمية وإرساء مقومات التقاضي الإلكتروني بمختلف محاكم المملكة، عبر تنزيل "استراتيجية الانتقال الرقمي بالمحاكم"، بتنسيق مع رئاسة النيابة العامة والوزارة المكلفة بالعدل.
3: استغلال الرقمنة لتقريب العدالة من المرتفق، تجسيدا لمبدأ "القضاء في خدمة المواطن"، ودمقرطة الولوج إلى الخدمات الرقمية لفائدة المرتفقين.
وأضاف أستوح أن إدماج أدوات الذكاء الاصطناعي وتطبيقات الحوكمة الرقمية أصبح ضرورة ملحة، وليس مجرد ترف تقني، إذ يشكل ذلك رافعة حقيقية لتحقيق العدالة الرقمية.
من جانبه، أبرز طارق بوخيمة، القاضي الملحق بالمجلس الأعلى للسلطة القضائية، إيجابيات التحول الرقمي، وما يوفره من بيانات تساعد على اتخاذ القرارات الصائبة، وتعزز الشفافية، وتمكن من الاستفادة من البيانات قصد استغلالها في تقنيات الذكاء الاصطناعي، فضلا عن دورها في تشجيع الإبداع في العمل. وعرج المتحدث على آفاق تطوير عمل المجلس الأعلى للسلطة القضائية، استنادا إلى التقنيات الرقمية، وتحديدا تقنيات الذكاء الاصطناعي، على مستوى الارتقاء بمجال العدالة "تجويد الأحكام، تقليص آجال البت في القضايا، توفير إحصائيات دقيقة تهم مختلف الملفات، فضلا عن دوره في تحقيق الأمن القضائي".
"الذكاء الاصطناعي" شريك جديد في إثبات الحقيقة
في مداخلة بعنوان "تحديات الإثبات في زمن الرقمنة والذكاء الاصطناعي"، قال عبد الكريم الشافعي، الوكيل العام للملك بمحكمة الاستئناف بالقنيطرة، إن تعقيد الجريمة الحديثة يفرض تطوير وسائل الإثبات، وهو ما يوفره الذكاء الاصطناعي، من خلال تقنيات قادرة على تحليل الأدلة بدقة علمية متناهية، تتجاوز القدرة البشرية.
واستعرض الشافعي عددا من آليات الذكاء الاصطناعي في الإثبات الجنائي، من بينها بصمة الدماغ التي تعد وسيلة دقيقة لاستقراء ردود الفعل العصبية، كما تطرق إلى دور الذكاء الاصطناعي في سماع الشهود من ذوي الإعاقات السمعية والنطقية، معتبرا أن هذه الأدوات تُمثل نقلة نوعية نحو عدالة أكثر شمولا وإنصافا.
من جهته، فرق الأستاذ الجامعي عبد الرحمان الشرقاوي، أستاذ التعليم العالي بجامعة محمد الخامس بالرباط، بين مفاهيم الرقمنة، والذكاء الاصطناعي، والذكاء التوليدي، موضحا أن هذا الأخير يقوم على محاكاة الفكر البشري لإنتاج محتوى جديد بناء على تحليل البيانات السابقة.
وأكد الشرقاوي أن هذا النمط من الذكاء الاصطناعي يفتح آفاقا واسعة أمام تطوير الممارسة القضائية، لكنه يطرح في الآن ذاته تحديات قانونية وأخلاقية جديدة تتطلب استباقا تشريعيا وتحديثا على مستوى تكوين القضاة ومهنيي العدالة.
واختتمت الندوة العلمية بالتشديد على أن مفهوم "العدالة الرقمية" بالمغرب، ليست مجرد شعار، بل هو مشروع مؤسساتي قائم يرنو إلى إحداث تغيير جذري في بنية النظام القضائي، ويجعل من التكنولوجيا شريكا استراتيجيا في بناء قضاء عادل ومنصف وفعال في خدمة دولة القانون والمؤسسات.