كصمت الياسمين للشاعر الفلسطيني طلعت حرب

سؤال الذات والهوية والعشق

السبت 09 يونيو 2007 - 08:48

في طبعة أنيقة صدر للشاعر الفلسطيني طلعت حرب ديوان"كصمت الياسمين"
تتقاطع الديوان عشرون قصيدة، وهي كالتالي : حديث، أحبك لكي يحبني الوطن، هكذا صمتك يكون، فلسطين .

ذاكرة الروح والجسد، رسالة ساعي البريد، اقتلني ياسيدي، ساندرا، أبجدية فلسطينية، حوار، الآن إذن، سألتني الموت، أصدقاء في ديانة، هذا المساء.

فقط قبليني، يوميات رجل ينتظر، أجندة شاعر، مسافرة، لأنك شرقي، هو لايميل إليك كثيرا، جبن امرأة، زارني الموت فحييت.

قصائد ديوان "كصمت الياسمين" لاتنتمي إلى زمن واحد، أو إلى مكان بذاته، وإنما انقدح زناد خيالها واشتعل أوارها في أماكن مختلفة وفي جغرافية متباينة ،تحديدا بين لبنان والمغرب.

القارئ للديوان تعتريه حالة خاصة، وهو يتملى بالعين والقلب انجراحات الذات وانزياحها.

فبين حالة نفسية وأخرى وجدانية ينهض معجم الشاعر الفلسطيني طلعت حرب جسورا جريئا، وسالما خالصا.

فالشاعر يستدعي صورا بلاغية تحتفي بالمضمر والمعلن، ولكأني بالشاعر يؤمن بأن الكتابة حرقة، تنطلق مما في القلب من غصة لتسود صفحات الورق البيضاء
الطالع على الديوان يقف مشدوها إلى الزخم الفني الذي تنطق به القصائد العشرون، إذ إن أنين بعضها لا ينطفىء إلا مع آخر كلمة في الديوان.

والحالة هذه تأخذ بتلابيب القارئ، وتلبسه لبوسا ممسوسا بجنون الكلمة الحرة وفتنة أقاصيها البعيدة والقريبة، وأحلامها الكبيرة والصغيرة، وتترك فيه دهشة الاطلاع.

ويبدو ظاهريا أن الشاعر حرب، أبدع في صمت وفيا لمملكته الشعرية ولذائقته الفنية، حين غرس ياسمينا في حديقته الخلفية، قارضا شعرا على نار هادئة صامتة.

الديوان، حسب اعتقادنا، شهادة حية ثرة وميثاق صادق وبيان عرفان بلون السماء والأرض، وبلون العسجد.

ينفتح الديوان على إهداء بسيط، إهداء إلى أولئك الذين اكتووا بآهات الصمت، وإلى من كان حزنهم صمتا، عذابهم صمتا، موتهم صمتا يهديهم الشاعر حرب صمته.

وعلى طريقة الشعراء الكبار يترك طلعت حرب كلمة شكر لكل قارئ، نقطف من فضائها مايلي :

"قد تخونك العبارات أحيانا

وقد تقتلك أحيانا أخرى

لكن حيث تتأمل بتلك الأرواح الإنسانية الساكنة

تلك التي تعمل دون كلل أو ملل

أولئك الذين يفتحون الستائر عن النهار


وينسجون


لتشرق الشمس في أولى ساعتها الصباحية

حين تتأمل بكل هذا أو أكثر

تريد أن تخرج من جلدك لتقدم جسدك مصلوبا قربانا لعطاءاتهم


أولئك الذين حلموا بحلمي

وساهموا في تحقيقه

اسمحوا لي

أن أقدم لكم كل حرف من ديواني


كصمت الياسمين


عرفانا لكم".

ربما هذه الكلمة الدافقة شعرا تكشف عن سريرة الشاعر ورؤيته المسكونة بالحياة والألم معا، وعلى هدي »أن لا شيء يسمو بنا إلى العظمة مثل الألم« فإن الشاعر يحمل هما وألما كبيرين ودين أمة بكاملها بحزنها بأفراحها وأتراحها، بمدنها وقراها وخليط أجناسها، فكان لابد أن يرد هذا الدين فكان الديوان"كصمت الياسمين"وكأني بالشاعر خرج من الحجر، ومن أصوات وآهات الثكالى والمعذبين، والقابضين على الجمر، تماما كما خرج من قمة أعلى جبل في فلسطين.

على مستوى الموازي البصري يمكن الوقوف عند صورة الغلاف المصممة من قبل الفنان محمد سرور، الشيء الذي يغري بإنجاز تأويل تفاعلي يتخذ صورة عشبة الياسمين على إيحاءات وجه طفولي وشبابي معا.

باستئناسنا بالغلاف نعرج على القصيدة الثانية في الديوان وهي : "أحبك لكي يحبني الوطن"، قصيدة كلها شوق وحنين إلى أرض الوطن.

الوطن بالنسبة إلى الشاعر طلعت، ليس حقيبة سفر، ولا حتى جواز سفر، وإنما إقامة قصيرة فوق تراب الوطن، تقول القصيدة : أحبك لكي يحبني الوطن أحبك، وامنحيني إقامة قصيرة في رحلة غابرة تحملني فوق تراب الوطن أحبك وأتجول بين عينيك لأرى أسوار عكا وخريف حيفا لأبني عزرالا هناك فوق تلال الجليل وأقطف ورود المساء من الحقول المتطايرة فوق نشوة الوجدان .

أحبك واخبريني برائحة الخبز بالتنور حين تمتزج بزغاريد الأعراس

ذات يوم ولدت سارعوا لإخباري بأنني لاجىء وألصقوا وثيقة السفر على جبيني فكانت رحلتي بين السواتر الترابية وإغلاق الحدود نامت أحلامي فوق مدافني وطارت مع السراب مع هويتي الزرقاء من المؤكد أن الصوت الشعري لحرب من خلال هذه الشذرات، التي اقتطفناها من قصيدة "أحبك لكي يحبني الوطن"، يحتفى بقاموس متنوع ودال، ما يضفي نكهة مميزة على الأشياء والكائنات والطقوس من جهة، ومن جهة أخرى يذكي آفاق الانتظار ويستدعي الوطن كذاكرة وجذور معمدة بالحنين والشوق اللاهب.

على نحو مغاير، تنهض قصيدة"فلسطين ذاكرة الروح والجسد" بمعنى ومبنى مختلفين، فهي بؤرة إشعاع الديوان وسويداء عمله.

فالشاعر دخل طقسا من طقوسه الخاصة، وكأني به يكتب وحسرة كبيرة تعرش في قلبه، ففلسطين تسكن ضلوعه ويتنفس من خلال تربتها ومدنها وهوائها وسمائها.

فمدن غزة، وحيفا، ويافا، وعكا، والخليل، ورام الله، وبيت لحم، وجنين، ونابلس، والقدس، تحمل كل واحدة منها تاريخا يحكي ألف قصة، هي قصص مرتبطة بهوية الفلسطيني المجبولة من الأرض واللصيقة بها.

نقرأ في القصيدة هذه الشذرات : فلسطين لم تكوني يوما ذاكرة عقارب الزمن أو لوحات استفهام تعلق على الجدران أو حتى النسيان على صفحات المذكرات فلسطين أنت القصيدة أنت الفتاة الحالمة بعيد زواجها أنت ذاك الطفل الجريح بين الحجارة أنت تلك الطلقة بين الريح والمطر تغتالين.

يلعب التكرار دوره الفعال في تولد الدلالة والذهاب بإيحاءاتها الثرة إلى أبعاد الحدود، ولذلك يصل هذا النوع من اللفظ إلى ذروته في قصيدة"فلسطين ذاكرة الروح والجسد".

إذ إن الآلية المشار إليها تقوم بوظيفة التحكم في الانفعال الجارف، وفي إضاءة لحظات انكساره .

تمضي القصيدة في لعبة الكشف والمكاشفة، إذ نقف على عتاب الشاعر لمجمل الاجتماعات العربية والقمم التي تنتهي بالشجب والإدانة، حينما يتعلق الأمر بمكروه يصيب فلسطين، التي تسكن قلب كل عربي.

نتابع القطف ونختار مايلي فلسطين الدمع والدم فلسطين الأب والأم فلسطين الشهيد والشهيدة فلسطين الكلمات والقصيدة فلسطين الروح والجسد.

هناك يوما أوقفوني سألوني عن اسمي اسمي غزة وحيفا ويافا وعكا اسمي الخليل ورام الله وبيت لحم اسمي جنين ونابلس والقدس هناك يوما سألوني عن الهوية هويتي كلمات القصيدة سألوني عن أغنيتي فوجدوا الرصاص كلماتي والبنادق لحني وموتي وقلبي أرضي وشعبي فصلبوني.

إنه ترقب متلهف لصوت طلعت حرب الشعري، فالقصيدة تلهب القارئ، والديوان يعرش في ذاكرته ومفكرته، بين تكثيف اللغة وسلاستها ينهض معجم حرب اللفظي كما أسلفنا القول، سابقا، جسورا ممتدا على كل أفق انتظار، فها هو يستدعي في القصيدة مدن فلسطين تباعا، فهي لعمري مدن صاخبة تمور حيوية، فهي ليست مدن نكروبوليس، بل مدن متروبوليس، وهي تماما أرض عسل ولبن، ويولد في أهلها بريق الحياة، رغم الحصار والدمار ولغة الحديد والنار.

بديوانه "كصمت الياسمين" يكون الشاعر الفلسطيني طلعت حرب حقق إنجازا إنسانيا، وضخ دماء جديدة في مملكة الشعر العربية، وإن تكلف وقاسى الأمرين ليخرج هذا الديوان الى الوجود، فالطبعة على نفقة الشاعر، والقصائد لها هويات مختلفة، إذ نظمت بين لبنان والمغرب.

يفسر الشاعر طلعت حرب عنوان ديوانه بالقول : لماذا كصمت الياسمين؟ »حين قررت الكلمات أن تأتيني كسحابة عابرة.

استيقظت

فكتبت عن الإنسان الثلاثي

لاشيء آخر

الهوية

العشق

الآنا


حين تسلب هويتك

لا بل تغتصب

حين يلفظك الرحم لتنسكب فوق أرض لا أرضك

شعب لاشعبك

لهجة غير لهجتك

حين يكبر فيك الطفل ليجد نفسه شيخا مازال يفتش عن صدر أمه

حين تضيع فيه الذكريات وتتجاوز التقاء الليل بالنهار

يتخبط عشقك بين عيون حبيبتك ونهد عاهرة

تكره حبيبتك أكثر كلما زاد عشقك إليها

يموت فيك إيمان الموت

يصفعك الأنا

يرميك فوق المدافن

تتماوج فوق قبرك الورود السوداء

ترقص تغني

تصفق

وتشمت بموتك

تضيع فيك أسئلة أيضا

عابرة

وتتناثر حول رأسك كصمغ الأشجار الاستوائية

تصبح أنت لا أنت

لاهو هو

ولاغيرك غيرك

حينها تدرك أن الحياة سلبتك كل شيء

حينها تعرف أن الصمت هو صلاة حين يخون الكلام

وأن الياسمين هو الروح حين تزني الطبيعة

تنتفض

تتمرد

تتزوج الرياح

تنتقم من المجهول

تقتل السماء

تزيل الأقنعة عن الحياة المزيفة

عن التقاليد عن الصحراء

عن الحب

تعترف لحبيبتك بأنك تكرهها

لأنهم قتلوك فوق سمائها

لأنك أنت لست أنت

هو الذي كان يحبها لاغيرك

قدره هو

آناك أنت أم آناه هو؟

تقول للصحراء

لرمالها


لأشجارها المزيفة

أنت لست أمي

تكشف عورتها

يقتولك فوق أجسادهم القذرة

حينها تقرر الرحيل أو يقرر هو

تخرج

توصد الأبواب جيدا لكي تمنعه أن يفتحها وراءك ثانية

حينها فقط

يعرفون بأنك رحلت

لاشيء آخر

يهتفون

يرقصون حين يمشون خلف جنازتك

يوم الرحيل

وتبقى قصائد كتبها هو


تعزية

إن شاؤوا أن يعزوك".

يذكر أن الشاعر من مواليد 1981 في صور، فلسطيني الجنسية، بدأ تعليمه الأساسي والثانوي الى حدود حصوله على الباكالوريا في لبنان، وقدم إلى المغرب مطلع 2000 في إطار مواصلة الدراسة، حصل على الإجازة في الحقوق تخصص علاقات دولية، يتابع حاليا تعليمه العالي في التخصص نفسه، ويهيئ رسالة الماجستير في العلاقات الدولية، مقيم في الرباط.




تابعونا على فيسبوك