" شهداء وجلادون" بحث في ذاكرة المقاومة والاضطهاد الحزبي بالمغرب، يحاول به مؤلفه الدكتور محمد وحيد تسليط الضوء على فترة من فترات تاريخ المغرب المعاصر تمتد ما بين 1956 و 1960 التي ماتزال تحيط بها الكثير من مناطق العتمة والظلال، وهي مرحلة من الأهمية بمكان ك
ويستغرب المؤلف كيف انه على الرغم من مرور عقود على حصول المغرب على استقلاله، إلا أن الخزانة الوطنية " ماتزال تشكو شحا كبيرا في ما يخص الكتابة المتعلقة بهذه الفترة الحاسمة في تاريخنا المعاصر، فمنذ عقد من الزمن صدرت مؤلفات أخذت موضوعا لها الصراع على السلطة في المغرب أو ما سمي بسنوات الرصاص، بينما يقع القفز على السنوات السابقة عليها أي سنوات الخمسينات وبداية الستينات التي عرفت نمو وازدهار حركة المقاومة.
وما أصاب هذه المقاومة من اضطهاد تنظيمات حزبية ومحاولة احتوائها، وعلى الخصوص من قبل حزب الاستقلال، وكيف جرى الاقصاء الجسدي للعديد من المقاومين وغيرهم، من ذوي الكفاءات، الذين كان المغرب في أشد الحاجة إلى خدماتهم، بالإضافة إلى هذه المعاناة، ثم إغراق مجموعة المقاومين الحقيقيين بعشرات الآلاف من أسماء الأشخاص الذين انتسبوا للمقاومة في حشرجتها الأخيرة.
الكتاب يحاول الإجابة عن أسئلة ما تزال عالقة، طرحتها هذه الفترة الحاسمة من تاريخ المغرب المعاصر
هل تحققت الأهداف الوطنية التي تم التعبير عنها في 11 يناير 1944، ولماذا تم اللجوء الى التفاوض، في وقت كان الوجود الفرنسي في المغرب وخارجه، وقد أخذ يتلقى ضربات موجعة؟ ولماذا وقع تهميش المقاومة المسلحة في مشاورات إيكس ليبان؟ وهل جرى إنصاف رجال المقاومة المسلحة الإنصاف المادي والمعنوي الحقيقي؟ ولماذا تم استثناء شهداء هذه الفترة من المصالحة الوطنية؟ يحاول الدكتور محمد وحيد في كتابه : " شهداء وجلادون" أن يساهم في تسليط الأضواء على هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ المغرب المعاصر التي تحاول أكثر من جهة التعتيم عليها وتجاهلها وطمس معالمها هي التي رسمت وجه المغرب الحالي.
وذلك من خلال إعادة الاعتبار للمقاومة الشعبية المغربية وذلك من خلال إحدى مجموعاتها الأكثر حيوية ونشاطا وهي منظمة " الهلال الأسود" التي تعبر عن مقاومة أبناء مدينة الدارالبيضاء للمحتل الغاصب والتعريف برجالاتها وأعمالهم ومنجزاتهم وفضائحهم وعائلاتهم وذلك في شخص مؤسسي هذه المنظمة الشهيدان : محمد الحداوي، وعبدالله الحداوي.
ويكمن مبرر هذا الاختيار، وهذا التوجه في جهل الجيل الذي ولد في السنوات اللاحقة على سنة 1956، بتجربة الكفاح المسلح التي خاضها أشخاص ودعوا في يوم ما أعمالهم أو وظائفهم أو مقاعدهم الدراسية وحملوا السلاح لإنهاء السيطرة الاستعمارية، وقد تمكنوا بعد أقل من ثلاث سنوات من المقاومة التي كانت ترقى في بعض اللحظات الى درجة الاستشهاد.
من إعادة السلطان محمد بن يوسف إلى عرشه، فهل نالوا ما استحقوه من اهتمام؟ هذا ما يسعى إليه المؤلف أي تخطي مرحلة التذكير السطحي بالمقاومة ذي الحمولة السياسوية المغرضة والانتقال إلى مرحلة الكتابة التاريخية الجادة والمنصفة ـ وتعود علاقته بالكتابة عن المقاومة والخوض في تفاصيلها إلى البحث الذي شرع في إنجازه عام 1987، ليستقر الرأي في الأخير على موضوع مقاومة الدارالبيضاء من 1952 و 1956 مع التركيز على منظمة الهلال الأسود، وكان من بين الأسباب التي زادت حماسه للاشتغال حول الموضوع كونه ابن مدينة الدارالبيضاء ووالده وطني مقاوم شملته حملة الاعتقالات التعسفية خريف 1953.
ويرى الاستاذ الباحث مؤلف الكتاب، أن الإحاطة بسيرة شهيدي منظمة الهلال الأسود محمد الحداوي وعبدالله الحداوي وغيرهما ضرورية لإعادة التوازن لتاريخ لمقاومة المغربية خلال خمسينيات القرن العشرين، فعلى الرغم من مرور قرن على ظهور تنظيم الهلال الأسود إلا ان كل ما كتب في إطار التأريخ للمقاومة لم يرق الى مستوى رد الاعتبار لهذا التنظيم الذي مسه كثير من الحيف بتشويه صورته من قبل خصومه.
واغتيال عدد مهم من أفراده واختطاف آخرين مايزال مصيرهم غير معروف، وقرصنة عملياتهم المسلحة لفائدة المنتسبين للمقاومة في لحظاتها الأخيرة، لكن أشد ما جسد هذا الاقصاء، وهذا " الاجحاف في حق المقاومة ـ يضيف الاستاذ وحيد ـ هو إهمال هيئة الإنصاف والمصالحة لقضية حالات الاختفاء القسري والاغتيال التي كان ضحاياها رجال من المقاومة المغربية سنة 1956 وخلال السنوات القليلة اللاحقة عليها، وكان منفذوها أشخاص عدوا من رجال الأمن.
وجرى تعذيب العديد من هؤلاء الضحايا، داخل دهاليز بناية الدائرة السابعة للأمن بفسحة الباشا البغدادي في المدينة الجديدة بالدارالبيضاء، أي أن مسؤولية الدولة في كل ما حصل ثابتة، ولايمكن التنصل منها.
ويذكر المؤلف، أن كل الدعوات المتكررة، عبر مقالات عن المقاومة لإيلاء هذه القضية ما تستحقه من اهتمام، لم يلق أي صدى لدى الدولة أو لدى هيئة الإنصاف والمصالحة
معظم الضحايا من أعضاء هذه المنظمة المقاومة " الهلال الأسود" هم مقاومون شوريون واستقلاليون وشيوعيون ولا منتمون، وكانوا أعضاء على الخصوص في منظمة الهلال الأسود، اتهموا بعصيان أوامر الدولة لهم، بإلقاء السلاح، وبالتآمر ضد سلامة شخصية سامية بالرباط، بينما يعترف من ظل من هؤلاء الضحايا على قيد الحياة أنهم كانوا ضد الاحتواء الحزبي.
" شهداء وجلادون" يعتبر إضافة نوعية غنية متميزة عن سابقاتها في هذا المضمار تسلط الضوء بشكل موضوعي ومنصف على جانب من جوانب المقاومة المغربية خصوصا تلك التي همت مدينة الدارالبيضاء مجسدة في تنظيم " الهلال الأسود" ورجالات أمثال محمد الحداوي وعبدالله الحداوي وأسماء أخرى، تخلدها اليوم بعض شوارع هذه المدينة المناضلة ـ قسم المؤلف الباحث دراسته هذه إلى أربعة أبواب : خص الباب الأول :
كنداء، وتذكير من أجل ذاكرة وطنية منصفة دعا فيه إلى القطيعة مع تلك المعالجات السطحية، التي تمر مرور الكرام، على احداث وطنية مهمة في بلادنا، أو الاحتفاء بها في المناسبات فقط، كما دعا الى إنصاف رجال الحركة الوطنية المغربية وإلى إعادة فتح سجل المقاومة لتنقيته وتنظيفه من كل الشوائب التي تسربت إليه في ظروف استثنائية غير عادية وبالتالي العمل على تأصيل المقاومة ويعطي مثالا لهذا
ويطرح تساؤلات مشروعة كيف أن أسماء ورموزا استعمارية وأنصابا تذكارية ظلت تحملها شوارع وساحات مغربية حتى عقود أخيرة، وكيف أنه لحد الآن مايزال يطلب الحصول على رخصة لزيارة قبور شهداء بالعاذر، وكيف تحولت بعض بيوت الخونة والمتعاملين من المغاربة مع سلطات الحماية الأجنبية، إلى متاحف ومزارات، في حين ان منطقة جهاد عبدالكريم الخطابي هي اليوم عبارة عن مرتع لرمي النفايات والأزبال، وكيف ان هذا الأخير مايزال مدفونا خارج أرض الوطن، كما تحدث المؤلف عن التحولات الاقتصادية والسياسية الكبرى وآثارها، وعلى الخصوص في مدينة الدارالبيضاء.
وفي الباب الثاني تحدث عن المقاومة المغربية في الدارالبيضاء، من خلال بعض رموزها شارحا الظروف الذي عملت على ظهور الكفاح المسلح منها
المأزق السياسي للأحزاب المساومة والمهادنة، وأعطى تقييما للعمل المسلح ونتائجه التي أجبرت سلطات الاستعمار على التعجيل بمنح المغرب استقلاله وكيف ان السياسي سطا في غفلة من الزمن على عمل المقاوم، وفي الفصل الثاني من الباب عرف بالشهيد محمد الحداوي كمقاوم بمواهب متعددة. وبالشهيد عبدالله الحداوي المقاوم الذي جرى التطاول على معظم عملياته، كما عرف ببعض رموز المقاومة المغربية الآخرين.
وخصص فصلا للتعريف بدور المرأة البيضاوية في هذه المقاومة وأعطى أمثلة في ذلك، بجهاد " أم الشهداء" الحاجة رحمة بنت محمد السامي، وفاطمة بنت بوشعيب أرملة الشهيد حجاج المزابي، ومناضلات ومناضلون آخرون، أما الباب الرابع فأفرده للحديث عن رهانات المهدي بن بركة أي عن الاتجاه السياسي الحزبي، وكيف حاول احتواء العمل الفدائي والكفاح المسلح المجسد في منظمة " الهلال الأسود" وكيف انطلقت عملية القتل والاغتيالات والتصفيات وسط المقاومين الذين رفضوا وناهضوا هذا الاحتواء، وهي عمليات تمت على يد مقاومين سابقين اختاروا الصف الاخر.
الذين شكلوا عصابات قتل إجرامية اسقطت كثيرا من الضحايا في شوارع الدارالبيضاء، وكيف تم اغتيال عبدالله الحداوي، وكيف تم في الاخير احتواء جيش التحرير باغتيال عباس المساعدي، وهي عملية ماتزال تثير الكثير من علامات الاستفهام والتساؤل حول دور الجانب الحزبي فيها.
ـ الكتاب صدر في طبعته الأولى (2006) عن مطبعة سوماكرام ـ الدارالبيضاء