السير الذاتية بين النمطية والتخييل

سيرة نجيب محفوظ الذاتية

الجمعة 13 يناير 2006 - 11:26
المؤلفات الكاملة لنجيب محفوظ

منذ أيام قليلة، خلال شهر ديسمبر، احتفل نجيب محفوظ بيوم ميلاده، بل احتفلت به كل المحافل الأدبية والثقافية.وليس أفضل من مراجعة كتابه " أصداء السيرة الذاتية" ، ليس لقراءتها أو التأمل في معطياتها، بل لتأكيد فكرة أن أصحاب العطاءات الكبيرة يمكنهم الانجاز المتمي

قالت الناقدة جليلة طريطر في كتابها " رجع الأصداء" حول سيرة محفوظ : " يمكننا أن نستخلص أن " أصداء السيرة الذاتية" ليس من قبيل الكتابات السير ذاتية النمطية كما راج عنه ذلك، بل الأرجح أنه داخل في صنف ما أصبح يعرف اليوم بالتخييل السير ذاتي، لأن كاتبه قدمه إلى الجمهور على أنه سيرة ذاتية ولكنه منح نفسه من حرية التصرف في مقومات هذه الكتابة ما به أخرجه من دائرته المعلومة ".

لكن السؤال : كيف تحقق ذلك في سيرة محفوظ؟ ترى هل عمد محفوظ إلى إسقاط نظرية فيليب لوجون التي تقول بأن مرجعية الأنا في السيرة الذاتية معصومة من الوقوع في دائرة التخييل متى تحقق التطابق بين الهويات الثلاثة : هوية المؤلف والراوي والشخصية؟ ربما عمدا خلط محفوظ بين المرجعي والمتخيل، وتنصل من مسئولية السير ذاتية التي يلزمها قدر غير قليل من الجرأة والصراحة والوضوح .

ربما إلى حد التعرييتذكر المتابع لأحاديث الكاتب الصحفية، مقولته في صحيفة " أخبار الأدب" أن سبب الإقبال على جنس السيرة الذاتية أن أصبح الأدب معقدا غير مفهوم للقارئ، بينما السيرة كلام واضح عن حياة الناس.

فيما يقول محفوظ مرارا أن شخصية " كمال" في " زقاق المدق" هي شخصيته وأرائه، وأن ما كتبه من روايات حول بعض الأماكن والشخصيات، هي في الحقيقة جزء من سيرته، ورجما لحيرة وقلق يثقلان الكاتب من خلال علاقته بتلك الأماكن والشخصيات، فتبدو تلك الروايات بما تتضمنها من شخصيات هي " سيرة ذاتية" بمعنى ما.

أما وقد هم الكاتب لكتابة " السيرة" ، الطريف أن بدت أكثر غموضا، ولم يفصل بين الذاتي والمرجعي والتخيلي والوهمي بدا وكأنه عمدا لا يريد أن يكون هكذا صريحا وواضحا، وكأنه بدا جريئا في قوله أثناء الكتابة الروائية أكثر منها وهو يكتب السيرة خصوصا أنه يعلم أن قارئ السيرة لا يضع احتمالات الصدق أو الكذب فيما يستنتجه أو يقرأه أقحم الكاتب شخصية " عبد ربه التايه" لتلعب دور الرابط والراوي في العمل .

كان أول ظهور بالرقم أو الحكاية رقم 5 : " ولد تايه يا أولاد الحلال ولما سئل عن أوصاف الولد المفقود قال : فقدته منذ أكثر من سبعين عاما فغابت عنى جميع أوصافه" ثم نتوقف أمام الحكاية رقم 9، والتي تعطى مؤشرات كثيرة لكل السيرة، وهي بعنوان " الخلود".

" قال الشيخ عبد ربه التايه : وقفت أمام المقام الشريف أسأل الله الصحة وطول العمر
دنا منى متسول عجوز مهلهل الثوب وسألني : هل تتمنى طول العمر حقا" فقلت في إيجاز من لا يود الحديث معه : - من ذا الذي لا يتمنى ذلك؟ - فقدم لي حقا صغيرا مغلقا وقال : - إليك طعم الخلود لن يكابد الموت من يذوقه .

فابتسمت باستهانة فقال : - لقد تناولته منذ آلاف السنين ومازلت أنوء بحمل أعباء الحياة جيلعد جيل فغمغمت هازئا - يا لك من رجل سعيد فقال بوجوم : - هذا قول من لم يعان كر العصور وتعاقب الأحوال ونمو المعارف ورحيل الأحبة ودفن الأحفاد .

فتساءلت مجاريا خياله الغريب - ترى من تكون في رجال الدهر؟ فأجاب بأسى : -كنت سيد الوجود ألم تر تمثالي العظيم؟ ومع كل شروق أبكى أيامي الضائعة وبلداني الذاهبة وآلهتى الغائبة .

وإذا أضفنا بعض المقولات المبعثرة هنا وهناك أمثال أقواله : " لقد فتح باب اللانهاية عندما قال " أفلا تعقلون" من رقم 10 " إن مسك الشك فأنظر في المرآة نفسك مليا" من رقم 12 " جوهران موكلان بالباب الذهبي يقولان للطارق تقدم فلا مفر هما الحب والموت" رقم 15 " عندما بلم الموت بالآخر يذكرنا بأننا مازلنا نمرح في نعمة الحياة" رقم 16 ثم إذا ما تأملنا عناوين الحكايات بالأرقام : دعاء، رثاء، دين قديم، السعادة، الطرب، التلقين، الأشباح، المرح، التحدي، المطر، التوبة، التسبيح، ليلة القدر، الحياة، الفتنة، الندم، الذكرى، الندم، السؤال .

ففي الفقرات أو الجمل المنتقاة عفوا والعناوين قدر واضح من التأمل، الوعي بالمخاطب وثقافته، النزعة الصوفية والتي غالبة على كل النزعات فكرا وسردا، الألف ولام التعريف التي تعنى التحديد والقصيدة لعناوين أغلب بل معظم العناوين، وغيرها من الملامح والشواهد، والتي نرى معها أن " نجيب محفوظ" كان مدركا لعنوانه " أصداء" السيرة الذاتية.

فلم يكتب " السيرة الذاتية" ، وهو المدرك تماما لخصائصها، ولكنه لم يشأ أن يكتبها بل يكتب بحول الخبرة العمرية وأصداء التجارب التي عاشهافلم يكن " التخييل" التي قالت به الناقدة " جليلة طريطر" محاولة واعية من الكاتب للتجاوز، بقدر أن منهجية الكاتب أصلا لم تكن " كتابة السيرة الذاتية" وما الحكاية رقم 6 " الخلود" إلا نموذجا مختارا لتأكيد ذلك، بل واختيار تلك الشخصية الدرامية الرامزة " عبد ربه التايه" كرابط درامي وإطار تتحرك حوله وبه الأفكار التي تبناها الكاتب للتعبير عنها من وحى حكمة الأيام وخبرة السنين.





تابعونا على فيسبوك