في رحلة من حي التشارك إلى وسط المدينة

حكايات واقعية عن مآسي اجتماعية داخل الحافلة رقم 56

الأربعاء 23 غشت 2006 - 14:13

الساعة تشير إلى السابعة صباحا، تجمهر العديد من الناس من مختلف الأعمار، في حي التشارك، ينظرون ذات اليمين وذات اليسار، ترقبا لوصول الحافلة رقم 56، بغية نقلهم إلى وجهتهم المحددة، قد تكون العمل أو نزهة أو لقضاء غرض معين في إدارة معينة.

تتراءى للركاب المنتظرين الحافلة قادمة من بعيد وهي متباطئة فتنبسط أسارير وجوههم التي كانت قبل فترة قصيرة منقبضة، يستعد الجميع، من كان جالسا فوق الطوار نهض، وهو ينفض الغبار عنه وفي نفس الوقت يذهب بنظره إلى مسار الحافلة القادمة، ومن كان واقفا استجمع قواه وطرد العياء عنه عبر قيامه بحركات خفيفة، أما الوافدون الجدد على محطة الانتظار فقد بدأوا يهرولون إلى مكان وقوف الحافلة.

تقف هاته الأخيرة ليترجل منها ركاب كانوا على متنها، إلا أن هؤلاء يحاصرون من قبل أولئك الذين كانوا ينتظرونها، تدافع وتلاسن بكلمات نابية ومنهم من أتى ليس ليمتطي الحافلة بل لتمتد يداه إلى جيوب المتزاحمين، هؤلاء وكأن تخديرا أصابهم، لا ينتبهون إلى غزاة جيوبهم إلا بعد أن يظفروا بغنائمهم ويرحلوا لتشنف آذان الحضور بالولولة والصياح والبكاء على الشيء المسروق.

يتدخل الجابي بعد هذه الحوادث لينظم عملية الصعود والهبوط بين الوافدين والمغادرين، لينفض النزاع وليتحول إلى شجار من نوع آخر حول المقاعد، وتتحول الحافلة إلى حلبة للتلاسن وتبادل الشتائم وأبعد من ذلك، فتصفية الحسابات بين النساء والرجال، هم حاضر بثقله، يتفجر بسبب النزاع حول مقعد أو زاوية حافلة.

يقول أحدهم وهو يختال بمقعده بعد جلوسه عليه، لامرأة وقفت إلى جانبه "ياك بغيتو المساواة وهذه هي المساواة كونو صحاح وربيو العضلات باش توليو تقبطوا البلايص"، ترسل له المرأة نظرة شزراء وتقول له بهدوء، "المرا، راها امك وختك أللي كيهدر على المساواة"، يتدخل بعض الرجال والنساء لتهدئة الوضع وليتحول الموضوع من النقاش الثنائي الشجاري إلى آخر للتداول بين ركاب الحافلة الذين يتمايلون في جميع الاتجاهات بالحافلة التي تهتز لتصدر أصواتا غريبة بين لحظة وأخرى ولتنبعث منها روائح تزكم أنوف الركاب إضافة إلى الروائح المنبعثة من بعض الركاب أنفسهم خاصة وطريقة وقوفهم بتشبث أيديهم في الأعلى تسمح بتسرب هذه الروائح بدون حدود أو جمارك تحد من حدتها إلا أن الجو يلطف بعد أن يصعد بائع البخور والكتب والشرائط الدينية وهو متأبط مذياعا يصدح بشريط قرآني يدخل الكل في سكون شامل مصغين إلى الشريط بعضهم ينصت بحب ومنهم من اعتبر ذلك انتهاكا لحريته وتبخيسا لقيمة القرآن الكريم، يقول العربي، "لا أدري كيف يسمح أرباب هذه الحافلات لتتحول الحافلة إلى سوق تجاري يعرض بضائع غير متجانسة، جل الباعة يعرقلون المسار الطبيعي للحافلة، ومنهم من يمتطيها وهي في الطريق، إذا لم تتوقف في المكان المخصص لها، إلا أن السائق يتواطأ أحيانا مع الباعة ليؤخر مسار الحافلة، حياتنا صارت خليطا غير متجانس، نمارس كافة الأنشطة في لحظة واحدة ومشاعرنا هي التي صارت تتحكم بنا دون التفكير في مدى المضرة التي سنلحقها بالآخر".

ما إن ينتهي العربي من كلامه حتى تصيح امرأة في وجه الذي يقف وراءها شاتمة إياه بألفاظ قبيحة، فلولا وقوف الرجال بينها وبينه لانهالت عليه ضربا، وسبب ذلك، تحرشه الجنسي بها، تواسيها رفيقتها وتهدئ من روعها وتمسح دموعها من عينيها وهي تقول "كون كانوا الرجال الحقيقيين مايطلعوش هادوك المكبوتين للطوبيس"
تهدأ هذه المأساة بمغادرة ذلك الشخص الحافلة ولعنة الركاب تلاحقه، ليعقبه حدث آخر، كان وقعه شديدا على نفوس الركاب، مخلفا ذعرا وهلعا في أوساطهم، لقد أوشكت الحافلة على التمايل، لولا ستر الله، إن السائق، ظل يلعب لعبة التسابق مع منافسه، سائق نفس رقم الحافلة 56 التابعة لشركة منافسة، ليقف في نهاية المطاف الاثنان وسط الطريق ليمارسا حصة تبادل الشتائم، كل واحد منهما يحمل الآخر مسؤولية خطأه، يصيح أحد الركاب "نحن ملتزمون بموعد العمل فمن العيب والعار أن تجعلونا نستمع لتوبيخ المدير".

بعض الركاب ترجل من الحافلة وأشار إلى سيارة الأجرة بدون ان تنطق شفتاه بأي تعليق، لكن علامات الاستنكار، بادية عليه، تلاحقه أعين باقي الركاب، إلى أن يمتطي سيارة الأجرة، منهم من استحسن قراره ومنهم من يعلق ساخرا، "يريد أن يستعرض عضلاته لماذا لا يمتطي سيارة الأجرة من الأول إنه إنسان شكلاني".

يعود السكون إلى حاله بالحافلة بعد مواصلتها المسير، عند محاولة السائق التوقف بإحدى المحطات يعترض الجميع في اتحاد أجمعوا عليه في صمت مرددين عبارات تتشابه، "حنا ماشي بقر ولا خرفان حتى تكدسونا هكا"، يجيبهم الجابي أن من حق هؤلاء المنتظرين خارجا الصعود ويخاطبهم قائلا "لو كنتم خارجا ولم تتوقف الحافلة بماذا ستحسون"، ما أن يسمع الركاب هذه العبارة حتى تستأنف حصة الخطب والمواعظ والحقوق المهذورة ومن ضمنها حق المواطن في الجلوس على مقعد بالحافلة ومن حقه أن تظل الحافلة فارغة إلا من الركاب الذين يجلسون بالمقاعد فقط.

إنه الحلم، الذي يبحث عنه مرتادو الحافلات في مدينة كالدار البيضاء، يتوقف السائق في المحطة التي تحلو له ويتجاهل الأخرى خالقا جوا مفعما بالتوتر والجلبة، مانحا الفرصة للعديد من الركاب بشتمه وصب جام غضبهم عليه، وكاسبا في الحين ذاته، عطف القلة الذين يلومون كل من شتم السائق، شارحين وضعيته المزرية وظروفه اللا إنسانية
الجو هنا بالحافلة كقناة فضائية عامة بها مواضيع ومظاهر اجتماعية كثيرة ولا نغفل الموسيقى بأنواعها الشرقي والغربي والهندي، يحاول شاب القفز من الشباك إلا أن أحدهم خارجا يمسك به رادا إياه إلى الداخل إنهم المراقبون الذين تعدى عددهم 5 أشخاص، يقول أيمن وهو ينظر إليهم مستنكرا، "خيل لي أنني في قطار وليس حافلة"
يبدأ المراقبون وهم يرددون تعليماتهم بإظهار تذكرة الصعود إلى الحافلة وهذه الأخيرة لا زالت واقفة في مكانها لا تتحرك، الكل يحتج عن الوقوف الذي تجاوز الربع ساعة بسبب ضبط حالات لأشخاص لم يؤدوا ثمن التذكرة، يبدأ مجددا تبادل التهم بين هذا وذاك، لتبقى المسؤولية مسألة زئبقية لن يتحملها لا هذا ولا ذاك، ولا هؤلاء الذين يسيرون الحافلة المهترئة من خلف مكاتبهم المكيفة ومقاعدهم المتحركة.

الساعة تشير إلى التاسعة، لقد وصلت الحافلة إلى شارع للا الياقوت، يترجل من تبقى في الحافلة بسرعة وهم يركضون ويحاولون في نفس الوقت نفض غبار الحافلة عنهم، تغيب هذه الأخيرة وسط الزحام، وكأن شيئا لم يكن لتعود بعد دقائق بسيناريو آخر أبطاله واقعيون ومنتجوه شخصيات وازنة ومخرجوه مسؤولون مرموقون.




تابعونا على فيسبوك