يمكن لمن لم يقرأ أعمال الكاتب المصري البارز عبد الوهاب المسيري وهي متنوعة وغزيرة وأشهرها موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية أن يجد في سيرته الذاتية الفكرية تلخيصا لرؤيته للعالم، إضافة إلى ما يعتبره نقاده تحولات من الماركسية إلى الإسلام .
كان المسيري قبل اتجاهه إلى دراسة ما يطلق عليه الظاهرة الصهيونية أستاذا للأدب الإنجليزي بجامعة عين شمس المصرية منذ حصوله على الدكتوراه من جامعة رتجرز الأميركية عام 1969 عن دراسة مقارنة بين الشاعرين البريطاني وليام ووردزورث 1770 ـ 1850 والأميركي والت ويتمان 1819 ـ 1892 .
ومنذ أكثر من ثلاثين عاما وهو محسوب على اليسار، ولكن البعض رأى في تحليل أعماله الأخيرة توجها يحسب لصالح التيار الإسلامي.
والمسيري لا ينكر ذلك استنادا إلى أن الإنسان ظاهرة مركبة متعددة العناصر والإبعاد كما يلح على هذا الأمر في كتابه "رحلتي الفكرية في البذور والجذور والثمار" الذي صدر متزامنا مع معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي بدأت دورته الثامنة والثلاثون الثلاثاء الماضي.
ويقع الكتاب الذي أصدرت دار الشروق بالقاهرة طبعته الثانية في 760 صفحة كبيرة القطع .
أما العنوان الفرعي لغلاف طبعته الأولى التي صدرت عام 2001 وكانت أقل حجما فهو "سيرة غير ذاتية غير موضوعية" لكن المسيري حذفه في الطبعة الجديدة وأن ترك هذه الجملة في المقدمة.
ويبدو أن هذه الجملة حررت المؤلف من الالتزام بكتابة صارمة يتتبع فيها تصاعد الأحداث الشخصية وتراكم التجارب الخاصة من الطفولة إلى الشباب إلى سن الحكمة ليصبح الكتاب تقطيرا لخبرات مفكر ينظر من خلاله إلى حياته وإنجازاته بكثير من الرضا وإن لم يصرح بذلك.
فقد كان المسيري في صغره عضوا بجماعة الإخوان المسلمين ثم عضوا في الحزب الشيوعي المصري، لكنه ظل علي مسافة ذهنية تسمح له بالنظر إلى الأمور بكثير من التجريد إذ يقول وضعت جهازي العصبي داخل ثلاجة مدة ربع قرن.
كنت أتباهى في أثنائها بأنني أنظر إلى وقائع الحاضر نظرة مؤرخ وأنني يمكنني أن أراقب العمال يغيرون رخام منزلي وأكتب في الوقت ذاته عن الفيلسوف الألماني امانويل كانت
وأضاف أن الإيمان داخلي لم يولد إلا من خلال رحلة عقلية طويلة، ولذا فإيماني ايمان تأملي عقلي لم تدخل عليه عناصر روحية فهو إيمان يستند إلى إحساس بعجز المقولات المادية عن تفسير ظاهرة الانسان وإلى ضرورة اللجوء إلى مقولات فلسفية أكثر تركيبية .
ويوضح أنه اكتشف الدين كمقولة تحليلية وليس مجرد جزء غير حقيقي من بناء فوقي ليس له أهمية في حد ذاته المكون الديني ليس مجرد قشرة، وإنما هو جزء من الكيان والهوية.
هذا التأمل جعله يؤمن مثلا بأن المقولات الايديولوجية ربما تكون قناعا يختفي وراءه الإنسان بحيث يتحول إلى عقل محض وقد يختفي الإنسان تماما إلى درجة أن يموت قلبا لا قالبا ولذا تجدني لا أومن بالزيجات الإيديولوجية تتحول بعد فترة إلى ما يشبه اللجنة المنعقدة بشكل دائم.
ومنذ بداية الكتاب والمسيري يتحفظ لدرجة الرفض على فكرة أن يتلصص أحد على حياته الخاصة، مشددا على أن الكتاب هو رحلتي الفكرية كمثقف عربي مصري وليست قصة حياتي الخاصة زوجا وأبا وابنا وصديقا وعدوا.
أحداث حياتي لا أهمية لها في حد ذاتها، وإنما تكمن أهميتها في مدي ما تلقيه من ضوء على تطوري الفكري.
يحكي المسيري أنه حين كان منتميا لفترة قصيرة من صباه إلى الإخوان المسلمين اكتشف أن كثيرا من الشيوعيين في مدينة دمنهور شمالي القاهرة التي نشأ فيها كانوا أعضاء في حركة الإخوان قبل دخولهم الحزب الشيوعي والعكس بالعكس.
وحينما كنت في دمنهور عام 1965 في أثناء العدوان الثلاثي البريطاني الفرنسي الإسرائيلي سمعت إمام أحد مساجد دمنهور ينشد قصيدة لعبد الوهاب البياتي، واكتشفت أن هذا الإمام كان ملحدا.
وفي رأي المسيري أن أكبر الكوارث التي حدثت للمجتمع المصري في السنوات الأخيرة هي نتيجة تآكل الطبقة المتوسطة، وما أدى إليه ذلك من إحلال رابطة التعاقد محل قيمة مثل التراحم والتسامح قال إنها كانت موجودة في فترات سابقة حتى أن الفرد يتعلم منها أهمية الإنسان ككائن حر نبيل وأهمية العواطف وأهمية الإفصاح عنها.
ولعل هذا يفسر حبي لأفلام المخرج الياباني أكيرا كوروساوا فهي عامرة بشخصيات ملحمية لا تتردد في التعبير عن مشاعرها وتعيش حياتها على مستوى يليق بأبطال الملاحم.
من زاوية النظر هذه يرى المسيري الأفراد والمجتمعات وفقا لقاعدة أو ثنائية التراحمية والتعاقدية.
ويشير على سبيل المثال إلى أن المجتمع الأميركي توجد فيه جيوب تراحمية كثيرة
بل تتزايد أحيانا هذه الجيوب كرد فعل للتعاقدية.
أما المجتمع الإسرائيلي فهو ليس مجتمعا عنصريا وحسب ولكن قوانينه أيضا عنصرية
ولا يستند المسيري في حكمه هذا على معيار إسلامي إذ يقول إنه عرف الصهيونية لا من منظور عربي ولا من منظور توراتي يهودي، وإنما من منظور عالمي كجزء من التشكيل الحضاري الغربي وتاريخ الافكار في الغرب.
الإشكاليات الفلسفية التي أثارتها الصهيونية بالنسبة لي كانت مثارة في حياتي قبل الاشتباك مع اليهود واليهودية والصهيونية.
وفي رأيه أن المحارق النازية الهولوكوست التي تعرض لها غجر ويهود والذين رأي النازي أنهم لا يفيدون مشروعه العنصري جزء من التاريخ الأوروبي أي أنها ليست تجربة يهودية عامة، وإنما تجربة أوروبية خاصة.
ويتفق المسيري مع قرار أصدرته هيئة الأمم المتحدة في السبعينيات يعتبر الصهيونية حركة عنصرية وشكلا من أشكال التمييز العنصري.
وبصورة أكثر إيجازا يقول عدائي للصهيونية ينبع من عدائي لكل أيديولوجيات العنف والعنصرية مثل النازيةولو اختفت إسرئيل من على وجه الأرض أو تصالح معها كل العرب لظل عدائي للصهيونية كما هو.
ويعد المسيري من الكتاب المصريين القلائل الذين حظوا بالتكريم في حياتهم ففي عام 2000 نظمت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة مؤتمرا موسعا ناقش فيه مفكرون وباحثون من تيارات سياسية وأيديولوجية مختلفة موسوعته "اليهود واليهودية والصهيونية نموذج تفسيري جديد" التي صدرت عام 1999 في ثمانية مجلدات.
كما نظمت كلية الآداب بجامعة القاهرة العام الماضي مؤتمرا عن مجمل أعماله في أدب الطفل والنقد الأدبي والدراسات اليهودية بمناسبة صدور كتاب "في عالم عبد الوهاب المسيري.
حوار نقدي حضاري" ويقع في 1130 صفحة كبيرة القطع ضمن مجلدين يضمان دراسات كتبها أكثر من 80 مؤرخا ومفكرا عربيا وأجنبيا من ماركسيين واسلاميين وليبراليين منهم محمد حسنين هيكل والمؤرخ الأميركي كافين رايلي رئيس جمعية دراسات تاريخ العالم بالولايات المتحدة مؤلف كتاب "الغرب والعالم" الذي صدر في مجلدين عام 1985 وشارك المسيري في ترجمته.