في إصداره الجديد "الرحيل" عن دار النشر غاليمار، يتحدث الروائي الطاهر بن جلون، وهو أشهر روائي مغربي في فرنسا يكتب باللغة الفرنسية، عن أفكار وأوضاع إحدى شخصياته الرئيسية، وهو عادل، الحاصل على شهادة عليا، ووجد نفسه معزولا في محيط لايؤمن بالقدرات الفكرية والع
فضاء الرواية يرصد المعاناة النفسية لهذا الشاب الذي تنكر لجنسه، وتبتدئ خيوط الرواية من طنجة التسعينات، حيث يسرد المؤلف حالة مجموعة من الطلبة الذين يقضون سحابة يومهم بانتظام في أحد مقاهي طنجة المحاذية للشاطئ، إذ يشاهدون الضفة الإسبانية، وفي الليل يثيرهم مشهد القوارب التي تمخر عباب البحر على هدى المصابيح الكهربائية، ويوما بعد يوم يكبر حلم الرحيل في نفوس هذه المجموعة، خصوصا وان الفردوس في ملك اليد وقريب منها.
الرواية فسيفساء من التيمات، حيث يتقاطع السياسي بالاجتماعي وبالسيكولوجي، فلا غروة أن يكون الطاهر بن جلون استثمر في روايته الجديدة "الرحيل" حالة العمال المغاربة المهاجرين، وليست هذه أول مرة يعود فيها الكاتب إلى العمال المغاربة لاستيفاء مادته الكتابية، إذ إن كتابه "أقصى درجات العزلة" يعتبر الأول، حيث كتب فيه بن جلون عن المعاناة الشديدة التي يعيشها المهاجرون وعن بؤسهم العاطفي والجنسي الشديد .
حول عمله الجديد كتب بن جلون في موقعه الرسمي على الانترنيت : إن إنجاز عمل أدبي بمثابة تشييد منزل يبنى على سنوات، ولايمكن أن يشيد في أشهر قليلة، إذ نضيف غرفة جديدة إلى مجمل البناء دون أن نشوه معالم هندسته وجماليته.
هناك تنسيق على الرغم من اختلاف التيمات من عمل إلى آخر فالعمل شاهد على الفترة التي نعيشها، كما هو شاهد على مجتمع ننتمي إليه أرصد الأشياء وأقوم بالكتابة عنها، فمن "حرودة" 1973 إلى "الرحيل" 2006، يمكن أن نجد توليفة رائعة، من التيمات، قد تنهض من جديد إحدى الشخصيات المعروفة في تضاعيف كتاباتي، ولكن باسم مختلف، كما يمكن الاحتفاظ أيضا بالشخصية ذاتها.
وبخصوص "الرحيل" يضيف الكاتب الذي غالبا ماتثير رواياته جدلا أدبيا صاخبا، "إنني رحلت لإثبات ذاتي، بينما نجد شبانا مغاربة يرحلون رغبة في البحث عن فرص عمل، وبناء حياتهم في بلاد المهجر، قد تكون أوروبا كما أميركا الشمالية هي، إذن، رغبة عنيفة وعصابية وهاجسية أيضا، بل هو في العمق رحيل بأي ثمن، قد يفقد معه المغامر حياته الى الأبد .
إرادة الرحيل بأي هدف لم تكن وليدة فترتي، بمعنى أوضح، في فترة الستينات والسبعينات، كان البعض يغادر وطنه هروبا من القمع لينهض بمعركة الحرية من الخارج، لكن الغالبية العظمى لاتحلم إلا بشيء واحد، وهو العودة إلى الوطن.
وقد حلت اليوم الإكراهات الاقتصادية محل القلق السياسي وانعدام الحرية وفقدانها
البحث عن فرص العمل هو عصب الرحيل.
فالشخصية الرئيسية في الرواية، وهو عادل حاصل على دبلوم الدراسات العليا كان يطمح كغيره من الشباب إلى خدمة بلده، الا انه اصطدم بقلة فرص الشغل وبانعدامها، ومن هذا المنطلق فهو يقضي أيامه في المقاهي، وكبرت عنده فكرة الرحيل، أمام هذا الوضع المستجد، لايجد عادل إلا الغوص في الرذيلة حينما اضطر ان يكون عشيقا لمخيل، وهو أحد اللواطيين الإسبان، الذي أخذ بيد عادل وسافر معه إلى برشلونة، شريطة أن يقاسمه سريره، فقد حقق له بعضا من انتظاراته، لكن على حساب كرامته وجنسه"
العالم الجديد الذي أصبح عادل الشخصية المركبة في الرواية ينغمس فيه، عالم الرذيلة والتشيؤ، بات عادل إنسانا مستنسخا مجردا من قيم الأسوياء، متنكرا لجنسه ورجولته، ونهض في مخيلته قلق تأنيب الضمير، وهو الذي يأتي الفاحشة، ويعاشر لوطيا تحت سقف واحد ويقاسمه لذة عابرة مكرها .
يقول الطاهر بن جلون بأن الواقع هو المغلف بالضبابية والعتمة والتشاؤم، في رده على سؤال حول عتمة الرواية وانحيازها للتشاؤم، فالكاتب حسب المؤلف يكتب كما يرى الأشياء، وليست مهمته تجميل الحياة، فقد يبين ويظهر عبر التخييل انكسارات الحياة وهناتها ويسرد مشاكل اليومي.
ويقول صاحب "صلاة الغائب"، إن النهاية بالنسبة إلي انفتاح على الأشياء المهمة، النهاية تبقى مفتوحة على احتمالات كثيرة.
رواية "الرحيل" تمتح من سنوات التسعينات، وما شهده المغرب من تطهير للمناطق الشمالية، حينما حارب عصابات المخدرات ومروجيها .
بخصوص الجانب السياسي في الرواية يبرز الطاهر بن جلون أن كل نظرة فهي سياسة، ولكن بعيدا عن كل مقاربة إيديولوجية .
الكتابة الأدبية تغرف من الواقع بكل تناقضاته ويترجم ذلك تخييليا لمغرب بلد ينمو ويتقدم، ولكن ببطء، فهو مغرب متسربل بالديمقراطية، فقد طوى صفحات الماضي، بما فيها سنوات الرصاص التي أدمت عشرات العائلات.
ورواية الرحيل، هي العمل الأدبي الذي جاء مباشرة بعد رواية "هذا الغياب القاتل للضوء" 2001، فالرحيل اذن، رواية تساير المغرب الجديد مغرب التفاؤل.
بدأ بن جلون الكتابة شعرا مع مجموعة "أنفاس" ثم انتقل الى الرواية والقصة، صدرت له العديد من الأعمال الأدبية منذ السبعينات منها روايات "حرودة" عن دار دونويل عام 1973، "موحى الأحمق موحى العاقل" عن دار لوسوي عام 1981، "صلاة الغائب" عام 1981 "طفل الرمال" 1985، "ليلة القدر" 1987، وهي الرواية التي حصل من خلالها على جائزة الكونكور الفرنسية.
والى جانب الرواية أصدر الطاهر بن جلون الذي يقيم نصف العام بباريس ونصفه الآخر بالمغرب انطلوجيا حول القصيدة الجديدة بالمغرب عام 1976، ديوان "في غياب الذاكرة " 1980 والمجموعة القصصية "الحب الأول هو دائما الأخير" .
ومن أعماله الأخيرة نذكر رواية "ليلة الخطأ" و رواية "مأوى الفقراء" ورواية "هذا الغياب القاتل للضوء" عام 2001، وهي الرواية التي آثارت حفيظة معتقلي تازمامارت، لأنهم عابوا على الطاهر بن جلون عدم إثارة قضيتهم من قبل واستفادته منها الآن لكسب أرباح طائلة على حسابهم، وهو ما انكره بن جلون في ما بعد، وقال إنه كتبها نزولا عند رغبة أحد أصدقائه الذي طلب منه كتابتها، وبعد ذلك انقلب ضده، وهو الأمر الذي لم يرغب الكاتب الخوض فيه وأخيرا روايته الجريئة "الرحيل" عن دار غاليمار 2006 .