رحيل هنري مشيل ينفض الغبار عن بعض مما علق بالذاكرة

الموت يغيب المدرب الذي اجتهد لتكوين منتخب مونديال 1998

الصحراء المغربية
الثلاثاء 24 أبريل 2018 - 17:57

كانت للحوار معه متعة.. يتوقف لأنه ينفعل قبل أن يعود لنواصله

أطفأ السيجارة في كفه من شدة الغضب واستأنفنا حوارا وكأن شيئا لم يكن

رحل هنري ميشيل، رحل الرجل الذي سبقته شهرته نحو المغرب.

هنري الذي ودعناه، أمس الثلاثاء، هو آخر مدرب قاد المنتخب في نهائيات كأس العالم 98.

أمضى في المغرب مراحل مهمة سواء بصفته مدربا للمنتخب الوطني أو الرجاء البيضاوي.

كان المدرب الراحل كثير الانفعال، لكنه وبخلاف الكثيرين "اللي فقلبو على لسانو"، يغضب لكنه ينسى بعد إطلاق آخر زفرة من سيجارته، وقبل أن يلقي بعقبها في المنفضة.

في الفترة الأولى لإشراف الراحل على المنتخب الوطني عشنا ذكريات لا تنسى، تأهلنا إلى مونديال فرنسا 1998 عن جدارة وقبل خوض آخر مباريات التصفيات، وتأهلنا إلى نهائيات كأس إفريقيا للأمم التي أقيمت في العام نفسه في بوركينا فاسو.

إنه واحد من المدربين الذين عملوا بجد لتكوين منتخب قوي، تحمل المسؤولية في مرحلة دقيقة، ففي بداية الموسم الكروي 1995 – 1996 تعاقدت اللجنة المؤقتة التي كانت مكلفة بتسيير الجامعة الملكية لكرة القدم، مع المدرب الفرنسي الذي لم يناقش أحد كفاءته، إذ عمل مساعدا للمدرب ميشيل هيدالغو، الذي أفتى باستقدامه، ودرب المنتخب الأولمبي الفرنسي وأحرز معه ذهبية أولمبياد لوس أنجلوس عام 1984، وقاد منتخبي فرنسا والكاميرون في مونديال 1986 و1994.

بخلاف المدربين الذين تحملوا المسؤولية بعده، اتبع خطة نموذجية للم الشتات وتكوين قاعدة حقيقية للمنتخب الوطني، كان ينظم تجمعات أسبوعية لأفضل لاعبي البطولة الوطنية وينهي التجمع بمباراة إعدادية ضد أحد فرق الدرجة الأولى ليتمكن من التعرف على أكبر عدد ممكن من اللاعبين المحليين، ولما تكونت لديه فكرة عن أغلب لاعبي البطولة حتى لا نقول الكل، استغل مباراة إعدادية ضد مالي خريف سنة 1995 ليستدعي محترفين نظير العميد نور الدين النيبت، ومصطفى حجي، ورشيد العزوزي، والسماحي التريكي و...

وأشرك لاعبين لم يتوقعهم الكثيرون، إذ وثق في لاعبي الرجاء عبد الإله فهمي، ويوسف روسي وأعاد زميلهما صلاح الدين بصير إلى دائرة الضوء، بعد أن تناساه مدربون آخرون رغم تألقه مع المنتخب العسكري.

مع تلك المباراة ظهرت بوادر الأمل وتزكت حين هزم المنتخب الوطني نظيره التونسي المؤهل لنهائيات كأس إفريقيا للأمم التي أقيمت عام 1996 في جنوب إفريقيا، والتي عجز منتخبنا آنذاك عن التأهل لها بتذيله ترتيب المجموعة التي ضمت منتخب كوت ديفوار وبوركينافاسو.

ضد تونس التي خاضت النهائي تألق زملاء النيبت وحجي وفازوا بثلاثة أهداف مقابل هدف واحد، ودفعوا التونسيين إلى مراجعة أوراقهم قبل السفر إلى بلد البافانا بافانا.

واصل الراحل عمله بهذه الطريقة كما واظب على عقد اجتماعات مع مدربي فرق الدرجة الأولى للحديث عن لاعبيهم والاستماع لمقترحاتهم.

مع هنري ميشيل لم يكن الصحافيون في حاجة إلى انتظار الدور ليستجوبوه، بل كان يكفي الاتصال به لتحديد موعد أو زيارة تجمعات المنتخب الوطني وما أكثرها في عهده ليحاوروه.

شخصيا يصعب أن أعد عدد الحوارات التي أجريتها معه، تعددت الحوارات بتعدد المنابر من "الشرق الأوسط" إلى "الصحراء المغربية" ومنها إلى "الصباح" قبل العودة إلى "الصحراء المغربية".

 الحوارات مع الراحل هنري كان لها طعم آخر، وإن لم تكن تخلو من مشاكل، كان أول حوار أجريته معه والمنتخب الوطني مقبل على تصفيات كأسي إفريقيا والعالم لسنة 1998، وأذكر أنني سألته إن كان سيعتمد على التشكيلة نفسها في المنافستين أم لا؟

وقال لي "المنافستان متزامنتان، ونحن نفكر في كسب رهان تأهل مزدوج، هل سنشارك بمنتخب واحد أم اثنين سنرى ذلك مستقبلا" أثار تصريحه القيل والقال وعاتبه البعض على ذلك.

تواصلت الحوارات وكان صراخه يكسر الصمت المحيط بمكتبه كلما شعر أنني بالغت في استفزازه، بل أكثر من هذا أطفأ السيجارة في كفه حين سألته عن راتبه وخلافه مع مساعده السابق رشيد الطاوسي وأشياء أخرى لم أتذكرها فثارت ثائرته، لكن الجميل هو أنني ظللت أنظر إليه حوالي خمس دقائق، وحين لاحظت أنه تخلص من غضبه واحمرار الوجه، قلت له هل نكمل حوارنا؟ فرد "هيا إذا كانت هناك أسئلة أكثر استفزازا وترفع الضغط هيا. انتهى الحوار وودعته وهو يبتسم وكأن شيئا لم يكن لهذا قلت "اللي فقلبو على لسانو".

مع الراحل تأهلنا لنهائيات كأس العالم، وتأهلنا لنهائيات كأس إفريقيا وكنا نحرج المنافسين في ملاعبهم، هزمنا الغابون هناك في ليبروفيل بأربعة أهداف لصفر في الشوط الأول ولم تكتمل المباراة، وكنا متقدمين على غانا وما أدراك ما غانا في ملعبها بهدفين لصفر ولم تدرك التعادل إلا في الأنفاس الأخيرة، وبعد أن اجتاحت الجماهير الملعب.

ومعه كنا قريبين من تكرار إنجاز التأهل للدور الثاني لولا ما حدث من تآمر خلال مباراة البرازيل والنرويج.

ولأن المنتخب الوطني رفع رأسنا عاليا ولأن دموع لاعبينا بعد الإقصاء غير المستحق كانت غالية استحق المنتخب الوطني استقبالا من طرف جلالة المغفور له الحسن الثاني بالقصر الملكي، واستقبالا شعبيا في شوارع العاصمة صيف 1998، وكان كل ذلك الحدث فوق الوصف.

خلال الاستقبال الملكي جرى توشيح أفراد الوفد المغربي بأوسمة ملكية ومنح المدرب الراحل الجنسية المغربية.

عاد المنتخب الوطني إلى أرض الوطن وكنا على موعد مع تصفيات كأس إفريقيا للأمم لسنة 2000 لم يكن منتخبنا في المستوى تغيرت عدة أشياء وكنت من بين من اتهموا هنري ميشيل بالكسل، وكانت الحملة الإعلامية قوية كنا نمني النفس بتعويض مرارة الإقصاء بالتواطؤ في المونديال بالفوز بكأس إفريقيا للأمم، لكن مرارة الإقصاء دفعتنا إلى شحذ السكاكين إلى درجة لم يقو معها هنري ميشيل على المقاومة فاختار الانسحاب قال آنذاك "بعد النتائج السلبية والهجمة الإعلامية الشرسة آثرت الانسحاب".

خاض الرجل تجارب في الإمارات وتونس ثم عاد إلى المغرب ليشرف على تدريب الرجاء البيضاوي ويحرز معه كأس الكاف، بعد أن حرمه التعادل مع الكوكب في آخر جولة من لقب البطولة.

قبل أن يشرع في مهامه الجديدة مع الفريق الأخضر التقيته، حياني قبل أن يصل ليسلم علي والزميل هشام رمرام، وهو يردد "Tu fais toujours la gueule"، قالها وهو يبتسم أمام استغراب زوجته اللبنانية، التي لم تفهم كيف أنه يخاطبني بتلك الطريقة وهو يبتسم.  

بعد تجارب خارج المغرب عاد ليشرف على تدريب المنتخب الوطني، وكانت التجربة مختلفة تسلم المنتخب الوطني وهو مؤهل لنهائيات كأس إفريقيا للأمم لسنة 2008 لم نتمكن من تجاوز الدور الأول وكان الجلد الذي تعرض له أكبر من السابق.

أذكر أنه قال لم نتمكن من تحقيق أفضل النتائج لأنه لا توجد سياسة كروية ولا سياسة رياضية، ما رفع حدة الضغط على الجامعة لتنهي مساره على عجل.

عاد الراحل مرة أخرى إلى المغرب ليشرف على الرجاء وكانت التجربة الثانية شبيهة بمثيلتها مع المنتخب الوطني.

غادر هنري ميشيل المغرب لكن أخباره كانت تصلنا من حين إلى آخر إلى أن صارت وتيرتها أقل خصوصا بعد تأكد مرضه وتدهور حالته الصحية.

كان خبر وفاته مؤلما لأنه كان من أكثر المدربين الأجانب تواصلا وصدقا، ويمكن القول إنه آخر المدربين الناجحين، الذين وثقوا في كفاءة كل اللاعبين المغاربة محليين ومحترفين في الخليج كما في أوروبا. ويكفي أن أشير إلى أنه استقدم يوسف شيبو وهو لاعب للعربي القطري، وساهمت الثقة التي وضعها في انتقاله إلى بورتو البرتغالي، كما أنه كان ينادي باستمرار على كل من صلاح الدين بصير، وأحمد البهجة، وعبد الجليل حدا الشهير بكماتشو، الذين كانوا يمارسون في السعودية.

الطريقة التي اتبعها الراحل هنري ميشيل خلال إشرافه على المنتخب الوطني كانت نموذجية فهو لم يعمل على الجاهز، بل تحمل عناء تكوين منتخب وكانت بصمته واضحة.

نم قرير العين هنري نحن لم ننس الأيام الجميلة التي قضيناها وأنت تصنع إنجازات مهمة مع الأسود، لم تؤثر اللحظات العصيبة على علاقتنا، ولم تكن الانتقادات التي كنت أوجهها لك والتي كان "أصحاب الحسنات" يترجمونها لتدفعك نحو تعامل غير احترافي.

صورتك وأنت تردد "بصير بصير" بعد التأهل للمونديال، بأعلى صوتك إلى درجة أنه أصبح مبحوحا لا تفارقني منذ تلقي خبر الرحيل.




تابعونا على فيسبوك