نجح الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في بواكير الستينات في أخذ ثأر المثقفين من المدينة وقاد الشعراء الصعاليك في شوارعها وحواريها الضيقة مطالبين بإسقاطها وتغيير وجهها الزائف, وقد التف حوله المثقفون والصعاليك أولئك الذين لم يستوعبوا صدمة الانتقال من القرية إلى
وفي الاحتفال الذي أقامه معرض القاهرة أخيراً بمناسبة سبعينية أحمد عبد المعطي حجازي ألقى الشاعر فاروق شوشة الضوء على موقف حجازي من المدينة ولقب الصعلوك الذي ارتبط به حجازي قائلاً إنه عندما جئنا من القرية إلى المدينة كنا نشعر أننا غرباء وكنا نبحث حولنا عمن نتكئ إليه فوجدنا حجازي الذي أخذ بثأرنا من المدينة فقد استوعب صدمة الانتقال من القرية إلى هذه المدينة الصاخبة وقدَّم لنا قصيدته أنا والمدينة ووجدنا أنه يضع نفسه مقابل المدينة وفي تلك اللحظة أدركنا أن هناك شاعراً كبيراً يأخذ بثأرنا في القاهرة وأننا نستطيع أن نتكئ على هذا العالم الشعري.
واستمر حجازي في قصائده وشعرنا أن العنقود في طريقه إلى الاكتمال وأن هذه الحبات تصنع عالما مغايرا عما كنا نقرأه ونسمعه وهنا ظهرت شخصية حجازي الشاعر الصعلوك بمفهوم شعر الصعاليك الحقيقي أولئك الباحثون عن العدل الاجتماعي والحرية والذين يغامرون دون أن يملكوا قوت يومهم وخاصة في مواجهة الذين طوعوا موهبتهم لكبار مسؤولي ذلك الزمان.
وأضاف شوشة كتب حجازي عن حادثه معينة وشخص بعينه قصيدة لكنه استطاع أن يجعل هذه القصيدة تنطبق على آلاف الحوادث والأشخاص وهذه القصيدة ذكرني بها حجازي في مقالة بالأهرام أخيراً لم يكتب عن شخص أو موقف فجع منه، ولكنه كان مخلصاً للكلمة والصعلكة.
وحول أبرز الملامح في شعر حجازي مضى شوشة بالقول هناك الجدلية الدائمة مع الموروث الشعري فلا نستطيع حسم أن حجازي تعامل مع الموروث بالتجاوب أو بالتجاوز أو بالاختلاف، حيث تجد أنه قد عارض قافية البحتري وشوقي والعقاد ومن هنا يمكن أن التفرقة بين الشاعر الممتلئ بهم الجماعة والذات والشاعر الذي يجعل الأشياء وتراً للدندنة فإذا كان الكروان في شعر العقاد مغنياً جميلاً فنجده عند حجازي يوماً في المدينة ينذر بالخراب القادم وهنا نجد الموقف الفارق في الدلالة وفي التناول وهنا الجدلية التي يقيمها حجازي بإبداعه.
ويضيف شوشة ملمحاً آخر في شعر حجازي وهو اللغة فيقول ما زلت أشعر أن التجارب الأولى لرواد حركة التجديد في الشعر كان الكثير منه لغته هشة وهذه الهشاشة تذكّرنا بالشعر المترجم ترجمة رديئة، وأقول ربما كان السبب هو حرص هؤلاء على اللغة الواقعية فوصلوا إلى ما وصل إليه شعر صلاح عبد الصبور وجلب له الاتهامات التي نعرفها وكذلك القصائد الأولى للبياتي التي لا أكاد أميز فيه الشعر من السياب، فقصائد عبد الصبور كان ينقصها إحكام لغوي وأنا أتكلم هنا عن عروبة الشعر وأن ينسب إلى الشجرة الشعرية دون تقليد أو تكرار، وأستطيع أن أقول إنه لم ينجح من هذا كله إلا السياب في العراق وحجازي في مصر، فالسياب كان يقدِّم كلاسيكية جديدة في قالب الشعر الحر ونحن أحياناً كنا نقارن بين قصائد حجازي وصلاح عبد الصبور ونجد أن حجازي كان أكثر اتصالاً بحقيقة الشعر العربي من حيث البناء اللغوي والسيطرة على كل مفردات النص وعبد الصبور كان دائماً يبهرنا بفكرية الشعر فقد كان يقول لنا في كل قصيدة يكتبها أنا أفكر، أما حجازي فكنا نشعر أنه ابن الفطرة ليس لأنه لم يقرأ لكن لأن عجينة الشعرية طبخت على نار هادئة فأصبحت أكثر سبكاً .
أما الناقد محمود أمين العالم فقال إن حياة حجازي تجسيد حي للشاعر وشعره ولهذا نجد شعره بالغ الصدق والعمق والمعرفة وليس معنى هذا أنه يشكل نمطاً جامداً، بل على العكس نجد فيه الحياة والتعبير والإبداع فالخبرة الإبداعية والفكرية تشكل مراحل متعة من حيث الخبرة ولهذا أقول إن شعره في أغلب تجلياته التعبيرية يكاد يغلب عليه الطابع الحكائي الحي والطابع التاريخي وليس التأريخي وهذا يجعل النص يشكل بنية حكائية تاريخية متقطعة متصادمة فهو يحتفظ بالبنية التقليدية للشعر القديم ثم يفجر هذه البنية فيذوب الحكي المتصل وتظل قوافيه كالحارس على أبواب الدلالات ويضيف العالم أن ديوان حجازي الأول كان تعبيراً عن صدمة اللقاء بين القرية والمدينة ثم توالت الصدمات فكانت الصدمة الوطنية فالقومية فالإنسانية لتصبح في النهاية الحرية هي الجوهر عند حجازي.
ويؤكد العالم أن شعر حجازي بداخلنا لكننا لا نحسن مغامرة اكتشافه ولهذا أرى أن الجديد هو امتداد للتراث وبحرية الإبداع.
وقال د محمد عبد المطلب إنه في المرة الأولى التي شاهد فيها حجازي عام 1962 قلت إنه شاعر قادم من سفر أو مقدم على سفر وقد قرأت أشعاره لكي أثبت لنفسي ذلك فيما كنت أتابع الشعرية العربية منذ أن ظهرت لأبحث عن الركائز الأساسية التي قامت عليها فوجدتها أربع ركائز أساسية هي الموسيقى واللغه والخيال والمعنى وأنا أعرف أن حجازي سيخالفنى لأني جعلت المعنى هو الركيزة الرابعة ولكني لم اخترع ذلك فالثقافة المصرية هي التي وضعته في هذه المرتبة والذي لاحظته هو أن كل مرحلة من مراحل الشعر العربي تحافظ على هذه الركائز ولكن الذي يحدث أنها تعيد ترتيبها ترتيبا مغايرا وعندما بحثت عن حجازي وجدته يخرج على موروث الشعرية العربية الصيغة الشعرية والمعنى عند حجازي هو الموضوع الشعري المحمل بالإحساس والمرتبط بالإيقاع المليء بالمهاره اللغوية والخبرة الثقافية.
وأضاف عبد المطلب إنني عندما قرأت الديوان الأول لحجازي فوجئت أن مفردة السفر لا تتعدى أربع مفردات وتبلغ في كل أعماله 20 مفردة فتساءلت كيف ترسخ في ذهني أن هذا الشاعر مسافر أبدى واكتشفت أن سفر حجازي في المكان والزمان والشخوص والأحداث هو سفر في الحياه ووجدت أنه هو الذي ألصق بنفسه صفة المسافر الأبدي بقصيدته مسافر أبدا.
ويرى د حسن طلب أن تجربة حجازي مميزة بين الشعراء والرواد ومصدر هذا التميّز ربما يكون في اللغة وهي التي جذبتني، ولذلك فأنا لا أوافق شوشة على أن اللغة مجرد انعكاس لفكرة العروبة وأنه قد تم اختزالها في سجن العروبة وأعتقد أن شوشة لم يكن يقصد العروبة السياسية بقدر ما يقصد العروبة الثقافية على الرغم من أنني أرى أن اللغة عند حجازي تتجاوز فكرة العروبة ثقافياً وسياسياً وهي ترتبط بعمقها الفلسفي وبفكرة الوجود وهي تتجاوز محليتها وانتماءها لهذا الواقع وعندما يقال عن شعر حجازي أنه عروبي الطابع فهذا يعود إلى الفترة الأولى التي كانت فيها توجهات حجازي قومية لكن في كل ديوان نجده يقف شاهداً على مرحلة من المراحل ولا نستطيع الحكم على الشعر بأكمله.