يذهب الباحثان "عبد الرحمن الخصاصي" و"هاري سترومر" إلى اعتبار الفترة ما بين 1933 و1938، هي التي عرفت تسجيل شركة "بيضافون" لأغاني المرحوم بوبكر أزعري، وهي فترة عرفت مرور عدة فنانين آخرين نحو تسجيل إبداعاتهم بشكل مبكر، كالحاج بلعيد، أنشاد، أوموراك.
وبالتالي نحصل على مسلمة أساسية تتعلق باستثمار ركام موروث من النصوص الشفوية، وافتراض وجود أسماء مجهولة راكمت إنتاجا مهما، لم يكتب له للأسف أن يوثق، وما يؤكد ذلك قول الحاج بلعيد مثلا : ويلي زرينين ءيسان د لباروض كافا ساوالن السابقون كانوا يتغنون بالشاي والفروسية عايش بوبكر أزعري اذن فترة حرجة من تاريخ المغرب المعاصر، فترة التواجد الكولونيالي تحديدا، لكنه، عكس الحاج بلعيد الذي لجأ الى شعر الشهادة والتوثيق بمفهومه عند المرحوم عبد الله راجع، اختار أزعري انتقاد "الأنا" الجماعية التي يشكل جزءا منها، مركزا على الأسباب الداخلية التي هيأت للمستعمر كافة الشروط المساعدة للنجاح في مسعاه، فأثار تراجع القيم والسلوكات، بالإضافة إلى الخواء الروحي المهول.
إلى جانب ذلك الاختيار، لم يشع عن أزعري امتلاكه لمجموعة غنائية خاصة به، بقدرما ركزت جل المراجع التي تناولت تجربته الفنية على اشتغاله الفردي، متنقلا بين المناطق السوسية سيرا على الأقدام، أملا في التواصل مع جمهوره و سعيا نحو المساهمة بالكلمة المعبرة في استنهاض همم شعب نخرته قساوة و حيف المستعمرين وأذنابهم.
كان أيضا من أوائل المجددين على مستوى آلات العزف، لأنه يبقى أول فنان أمازيغي سوسي استعمل آلة الكمان بدل "الرباب"، وإن كان في أغانيه لا يعطي أهمية لجودة الألحان بقدرما منح كامل الأهمية لقوة الكلمة.
من خاصيات النصوص الشعرية لأزعري أيضا، اعتناقه لتصور يبقى سائدا بقوة في كل تجارب الرواد، بحيث تسند الإبداعية إلى قوى غائبة، لكن، إن كان شعراء الجاهلية العرب مثلا يؤمنون بشياطين الشعر، وبوادي عبقر، فإن الغناء عند الروايس القدامى يرتبط بمجال مقدس هو الدين، الذي يختصر في "الشيخ"، وربما كان ذلك من تأثيرات قوة تغلغل الفكر الصوفي والزوايا في سوس منذ القدم، يقول أزعري : بسم الله ءوراحمان ءيكاك ءاصواب : بسم الله الرحمن كلام صواب ءيكا لحيجاب ءييلسينو ءيكا ءاكواد : وحجاب للساني، وموجهي مانزاك ءاشيخينو هايي نسرضاون : أينك ياشيخي، فقد استدعيتك ءاشريف ءامولاي الحاج غيتاد ييد : ايها الشريف مولاي الحاج اغتني كاتاغ تليلا كاتانغ ءاكواد : كن لي عونا، وكن موجهي ءيغ نوسي الرباب ءينو رزماتيي لكتاب : إن حملت ربابتي افتح لي الكتاب ءاداقراغ ءانكمي نك لقاضي سالزرب : كي أقرأ وكي أصبح قاضيا بسرعة إن الشيخ هنا يختصر في كلمتين "الكتاب" و"القاضي"، ولهما في العمق علاقة مباشرة بمجال الدين والمعاملات، فالكتاب الذي ينسب للشيخ يحتمل ألا يكون سوى شرح أو تفسير للقرآن والسنة، وتحول الشاعر إلى قاض معناه أن تكون انتقاداته وأحكامه مستندة إلى مرجعية قوية، لاتحتمل البطلان، وهو ما يجعلنا نجد استجابة قوية لهذا النزوع الشعري لمجمل افكار التيار الفكري الديني الذي ساد في الفترة التي عايشها "أزعري"، وهي طبعا الحركة السلفية التي من المرجح ان تكون الزوايا في سوس قد نقلت أفكارها بصيغ مختلفة .
مباشرة بعد الاستهلال، يمضي أزعري نحو وضع تعريف للتنافسية في المجال المعاملاتي والأخلاقي، وكل ذلك في بناء يستهدف ضمنيا إلى الإرشاد والتصحيح، إن نحن طبعا قرأنا الأبيات وربطناها بالظرفية التاريخية العامة التي صدرت عنها : تاكمرت ءاغاتافن ءيصيادن وياض : في رحلات القنص يتفوق المهرة لاسوار ءاسا تافن ءيمحضارن وياض : بالمعرفة يتفوق الطلبة على غيرهم لاموال ءاساتافن ءيسبابن وياض : وبالاموال يتفوق التجار على غيرهم لانوار ءاساتافن ءيجديكن وياض : بالجمال والنور تتفاضل الزهور تومغارين لهيبت ءاس تافنت تياض : وبالهيبة تتفاضل النساء لمعاني ءاساكاتن ءيجماعن وياض : بالمعاني الجميلة يتفوق الكلام المعبر وبطبيعة الحال، يسهل امام كل تلك المفاضلة بين الثنائيات السالفة، العودة إلى أصولها في مرجعية القرآن والسنة، مما يؤكد أننا بصدد وحدة عضوية في هذا النص، ينطلق من استهلال يستحضر "بركة الشيخ" الدينية قبل أن تكون وسيلة لقراءة الواقع ومحاولات تصحيح الخلل الحاصل فيه.
ترى أين تجسد الخلل في المجتمع؟ لنستمع إلى الإجابة : لحم ءاربي تيرزي تلايي غ زاج : اللهم تدارك الكسر فقد اصاب لي الزجاج كيغ كولو دونيت سلعاقل نستاران : تجولت في كل الانحاء بالعقل ءيويغد لخبار ءيصحان نرا ءاداونتد نك : و تيقنت من اخبار صحيحة اطلعك عليها ءاوال ءيكا صاحت ءوريكي لكذوب : وكلامي حقيقة لا كذب يشوبه زوند الرحبة كاتك لمحبة غيلاد : الحب اليوم كالرحبة كولما غورتفكيت ريال لحرام ءاداك ءيك : كل ما لم تنفق عليه المال حرم عليك يايران ءاداسنكف لوصيت لكمنييد : من اراد الاستماع الى نصيحتي فليستمع ءاح ءاربي مان تينو ماني سنكيغ؟ : آه ياربي ما مصيري، وإلى أين اندفاعي؟ ءيكس ءوحبوض لوقر ءيكساغ لعرض : افقدني البطن الوقار والعرض ءيكسانغ تمارت ءورتنلي ءالحباب : وافقدنا اللحية لم تعد لدينا يا أحباب ءيكسانغ تمارت ءيكساونت تاونزا : افقدنا اللحية و افقدكن "تاونزا" ءاشكو سوق ءاغاديونت نتميقير : لأننا نصادفكن في الأسواق واش ءاحبوض ءيبضاياغ دونصحاب : البطن اللعينة فرقتنا عن الأصحاب واش ءاحبوض ءيبضاياغ د لوالدين : البطن اللعينة فرقتنا عن الوالدين واش ءاحبوض ءيبضاياغ د لعبادة : البطن اللعينة فرقت بيننا وبين العبادة نتو ربي نتوك ءانبي محمد : فنسينا الله ونسينا النبي محمد كولما دكيغ ءيواش ءينا : فييد : وكلما أطعمت اللعين قال : إلي بالمزيد البطن في هذا النص الجميل، لا تقصد لذاتها كما قد يفهم البعض، لأنها مجرد رمز يخفي كلمة أقوى دلالة، وربما توصل اليها القارىء الحصيف دون عناء، ونعني بها بالفعل كلمة الشهوات.
لنلاحظ أولا كيف رصد الشاعر وصفا سلبيا للمحبة، حين شبهها برحبة زرع أو ماشابهها، ليشير إلى دخول القيم سوق المتاجرة والمادة، بحيث يغيب الاصل و يحضر الفرع المشوه، مادام الناس يعوضون بالمال أو يحاولون ذلك قيمة مثلى في حجم الحب، دون أن يختصر الحب هنا بين الرجل والمرأة فقط، إذ اشار الشاعر إلى تأثير الشهوات والملذات على فقدان الأواصر بين الأصدقاء، وبين أفراد العائلة الواحدة، بين الأبناء والآباء، بين الفرد والعبادة.
تفكك القيم، نتج عنه خرق للطابع المحافظ للأسرة الامازيغية نفسها، خاصة في إطار سفور المرأة وخروجها نحو الاسواق، ليتمخض عن ذلك التحول الذي لم يعتد في الأصول تساؤل عن الرجولة اللحية رمز لها والوقار والعرض.
وفي مسار الوحدة العضوية و الموضوعية نفسها التي يحققها النص الغنائي، سيختم أزعري تصوراته وانطباعاته الرافضة لتجليات التفكك الأخلاقي والمعاملاتي بتبني إيمان قوي بالقضاء والقدر : ءاح ءايمي مان تينو ماني سنكيغ : آه يا أمي ما مصيري والى اين اندفاعي؟ ءيسكراغ ربي غوزمزاد غمكاد نكا : صير الله واقعنا بهذا الشكل الذي نحن فيه ءوركيس نلي لهيبت ءولا ليغ لعرض : ليست لدينا فيه هيبة ولا أعراض ءوراد ءالاغ ءيسكا راد صبرغ زيضرغ : ولن أبكي بل علي الصبر وتحمل ءيوارا نربي نصرف لمكتوب : قدر الله و تصريف المكتوب اللوح لمحفوظ ءاغنلكم غيكاد نكا : ففي اللوح المحفوظ كتب ان نصل هذا المآل ءايخفينو ءادورتالات ءولا تندمت : فلا تبك يانفس ولا تندمي كولما تزريت ءاسديلا د لاذن نربي : فكل ما قاسيته هو بإذن إلهي ءايموسلمن ونسات ءيما والله : خففوا يامسلمين من الهم فوالله ءامكاغاك ءيلازم ءابلا ءانتوهام : لم يكن مفروضا علينا إلا التفكير.