بعض الشخصيات تعيش حياتها كحجر في النهر، مغمورة، مختفية، لكنها تكبر وتنمو، ولا تموت وحين تخرج من الماء، تبقى حجرا، قد يبنى به جدارا ويبقى حجرا، وقد يستعمل للضرب والرمي، ويبقى حجرا، وحين يسقط ويختفي فليس بسبب فقدانه مواصفات الحجر، أو أصيب بالتعب، بل لأن دور
وكان أشبه بحجر مسنن، يمكن استعماله للقطع والبناء، حين ظهر إلى جانب الأمين العام للحركة الشعبية، ومؤسسها التاريخي، المحجوبي أحرضان، أصبح في فترة زمنية قصيرة، صديقه ومستشاره وساعده الأيمن، وكان من بين الأشخاص القليلين الذين يتكلمون همسا في أذن المحجوبي أحرضان، وأول الشخصيات التي يستقبلها، في صالون ضيوفه بحديقة بيته الكبير، والشخص الذي كان في العديد من الأحيان، يقبل، ليس بعلل السخاء، ولكن لأسباب القرب والولاء لأحرضان، تمويل بعض أنشطة الحزب.
لكنه أيضا الشخص الذي عارك وصارع به أحرضان العديد من منافسيه والغاضبين على طريقة تسييره للحزب، وشخصانيته المستشرية.
لكن إيكن، ورغم أنه حارب على كل الواجهات إلى جانب ومع المحجوبي احرضان، فليس لأنه مشبع بأخلاق الولاء، أو مؤمنا بمسلكيات المدافع عن الحزب، وأفكار ومواقف الحزب، بل لأنه، قطعا يمارس أدوار التطلع والتطوع، والصراع الوازن، ببراغماتية واضحة، وحسب المتتبعين لمسيرته السابقة في حزب الحركة، كان يمارسها بانتهازية مكنته من حرق المراحل، والوصول في وقت قياسي إلى جانب المحجوبي احرضان، وهو ما خلق له الأعداء والمناوشين والمتربصين به على الدوام .
لكن الرجل وكأنه لا يجد في ذلك ما يناقض منطق السياسة في حزب الحركة الشعبية، إذ أن مؤسس الحزب المحجوبي، كان باستمرار يغير الأسماء والولاءات والمساعدين والمقربين، وحين تواجد بوعزة إيكن إلى جانبه منذ مطلع الثمانينات، فلأنه كان يمارس حصته من سياسة القرب وحظوظه وفرص تطلعاته السياسية، وهي الفرص التي يفترض المحجوبي أن تكون مؤسسة أصلا على الحظوة المالية، بمعنى أن يكون الشخص ذو وجاهة مالية، تاجرا أو إقطاعيا أو مستثمرا، أو متوفرا قطعا على المال الكثير، وبعد ذلك لا يهم كيف تكون الشروط الأخرى ليحصل الشخص على التقرب منه والجلوس معه، والتواجد في معمعة صراعاته السياسية والحزبية.
لكن بوعزة إيكن كان فيه قدر كبير من كل الشروط التي يفترضها القرب من المحجوبي احرضان، فهو من أغنى أغنياء منطقة الخميسات، وهذا مهم جدا، بدأ حياته ممارسا للتعليم، ومدرسا للغة الفرنسية، وهذا مهم أيضا، وإن كان غير ضروري، كون العديد من الشخصيات المقربة من أحرضان، لم تدخل المدرسة أو أنها بمستوى تعليمي بسيط، ومارس بوعزة إيكن القضاء في بداية استقلال المغرب، ثم المحاماة، قبل أن يصبح وكيلا للملك بمدينة الدار البيضاء، وهذا مهم لأنه في هذه الفترة احتك بدواليب وأسرار، وإكراهات سياسية واجهتها الدولة، قبل أن يترك كل شيء ويتفرغ إلى الأعمال الحرة والاستثمار في قطاع الصيد بأعالي البحار .
ويقول البعض، إن مشكلة بوعزة إيكن أنه فاق الشروط المطلوبة، وأنه يعرف أكثر مما هو مسموح به، يعرف الأسرار، ورجال الصراع، وخيوط الولاء التي تشابكت وتفرقت في مرحلة ساخنة من تاريخ المغرب السياسي، بل عنصرا متواجدا في معمعة تشابك الخيوط، وأحرضان ليس من الأشخاص الذين يروق لهم أن يجالسوا قامات وتطلعات أطول منهم، منتهى طموحه، بل مطلق السياسة والحزب بالنسبة له أن لا يصارعه أحد على الموقع والمسؤولية والمنصب والحزب، فقد صنع حزبا على مقاسه وبمواصفات أفكاره وأسراره، وأي صراع من أي نوع كان، مستعد لأن يحفر له من أسفل ويقطع تطلعاته من أعلى.
وحين بدأ بوعزة إيكن يتطلع إلى المسؤولية الثانية في الحزب، التي كان المحجوبي يرتب أوضاعها لفائدة ابنه أوزين، دون نقاش ولا حوار أو استشارة أحد في الحزب، بدأ إيكن يراجع أوراقه، فالصراع هذه المرة ليس في محله، والبقاء إلى جانب أحرضان، يعنى قبول وضعية لا تسع حجمه ولا طموحه السياسي، فانقلب على الأمين، وسل ذراعه من ذراعه اليمين رسم مسافة الصراع والخلاف والاحتجاج بينه وبين الزعيم وراح يبحث في جوانب الصراع عن الغاضبين والمحتجين، والمستعدين لتدشين الانقلاب على المحجوبي أحرضان.
وكما كان بوعزة إيكن مواليا متحمسا للأمين العام للحزب، أصبح أيضا معارضا متحمسا عليه فتم الانقلاب على أحرضان وأبعد من الحركة الشعبية عام 1986، بعد اجتماع مسرح محمد الخامس، الذي أفضى إلى اختيار ثمانية أمناء يتقدمهم محند العنصر وزير البريد سابقا.
إلا أن الانتقام من الزعيم المحجوبي، وبالشكل الذي تم به لم يكن على مقاس طموحات وأهداف بوعزة، فقد كان هدف الانقلاب أن يسقط الزعيم، لا أن يخلو المنصب لزعيم آخر، بل لثمانية زعماء.
ولأن نتائج الصراعات السياسية، ليست دائما مؤكدة، بل تتضمن هامشا من المفاجأة لا تكون محسوبة في المنطلقات والبدايات، فإن بوعزة إيكن لم يكن مرتاحا لما وقع، إذ أن مسعاه كان الإطاحة بأحرضان، وأن يصبح أمينا عاما على الحزب، وإلا لماذا فك الارتباط مع جماعة المنقلبين على أحرضان، وابتعد عنهم، واختفى نهائيا قبل أن يشاهد مرة أخرى إلى جانب المحجوبي احرضان عام 1991 لتأسيس الحركة الوطنية الشعبية.
وعاد الصديق إلى جانب الصديق، وشوهد الذراع متأبطا الذراع، ومشى الاثنان من الصراع إلى الولاء مجددا، ودخلا معمعة السياسة والانتخابات البرلمانية، وأصبحت تطلعاتهما إلى الحكومة، لكن مرحلة الوئام هاته لم تدم طويلا، فطباع الصراع ظلت غالبة.
أحرضان الذي لا يؤمن بالقرب من منصب الزعيم وبوعزة الذي شارك في انقلابين على المحجوبي وعلى جماعة الأمناء الثمانية ظل يحلم بتذوق طعم الأمانة العامة للحزب، أراد أن يجرب الزعامة، ويتكلم لغتها، ويجمع ويفرق بين الولاءات السياسية، ويوزع المسؤوليات البرلمانية والحقائب الوزارية.
أن يكون بكلمة واحدة يستمع الجميع له، ولا يستمع إلى أحد على شاكلة وتربية أحرضان، لذلك وقع الفراق والفصام والشقاق بين الزعيم وإيكن، فخرج الأخير، وهو يبحث لنفسه عن حزب جديد يؤسسه على مقاسه ومطامحه، ولم لا، وهو الذي يتوفر على الثروة، ألم تكن ممارسة السياسة في أحزاب الحركة تعني في قسم كبير منها تدبير المصالح.
أسس بوعزة إيكن حزب الاتحاد الديموقراطي، في فترة قياسية، وخاض به غمار الانتخابات التشريعية في شتنبر 2002، وأظهر بعدها براعة كبيرة في شراء واستقطاب العديد من النواب وصل عددهم إلى 17 نائبا، كي يتمكن من تشكيل فريق نيابي، وفرض على أحزاب الحركة أن يترأس حزبه النواب الحركيين في البرلمان، لكن البلاء الشديد الذي أبان عنه بوعزة إيكن، اصطدم مرة بعد أخرى بمستجدات، لم تكن دائما في صالحه.
إذ أن مجموعة كبيرة من النواب الذين التحقوا بحزبه كان بعضهم يبحث عن امتيازات سياسية لا تسعها حدود حزب إيكن، وفوق ذلك لم يكن يجمعهم أي وازع سياسي مع الأمين العام، إلا وازع المصلحة، لذلك كان طبيعيا معاينة بعض الانسحابات، التي زادت واشتدت في المدة الأخيرة، بعد الموقف المتردد الذي عبر عنه بوعزة إيكن بطرق ملتوية، بخصوص اندماج الأحزاب الحركية، وذلك بتأكيده على أن صيغة الاندماج ستكون إما بحل حزبين والتحاقهما بحزب ثالث، أو بعقد مؤتمر للأحزاب الثلاثة يعلن خلاله عن ميلاد حزب واحد، وهو ما اعتبره الحركيون من حزب أحرضان وحزب محند العنصر، وكذا من حزبه الاتحاد الديموقراطي، تماديا من بوعزة في وضع العراقيل والمطبات في وجه اندماج الأحزاب الثلاثة، وذلك بهدف الإبقاء على الوضع كما هو، ما يعني ذلك أيضا من حفاظ على امتيازات حزبه التي خاض من أجلها صراعا طويلا ومريرا.
يضاف إلى ذلك اعتراض بوعزة إيكن على البث العلني لجلسات الاستماع لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان، كما عبر في استجواب لصحيفة أوجوردوي لوماروك، ولا يخفي المتتبعون، ارتباط ذلك بموقف بوعزة من مسؤوليته كوكيل للملك بالدار البيضاء مباشرة بعد أحداث 1965، إلى حدود بداية السبعينات، وهي فترة عرفت فيها هذه المدينة مجموعة من المحاكمات شملت سياسيين ومناضلين نقابيين.
لكن تراجع تراجع نجم بوعزة كان بدرجة أكبر، على إثر انتفاضة حزبه عليه، وتجريده من مسؤولية الأمانة العامة للحزب وغير خفي أن، المقربين من حزبه يقولون إن أسباب إبعاد بوعزة عن حزبه تعود بدرجة أساسية إلى بوعزة نفسه، وإلى اعتراضاته السابقة عن اندماج الحركات الثلاث في حزب واحد، والموقف من بث جلسات الاستماع، وطريقة تدبير شؤون الحزب، وربما أيضا لأسباب تتعلق بأسرار بوعزة مع مطارديه.