في ورشة غبرييل غارسيا ماركيز

كيفية حكي القصة في ورشة غابو

الأربعاء 01 فبراير 2006 - 10:52
غبرييل غارسيا ماركيز

عرضت إحدى القنوات الأجنبية خلال هذا الأسبوع مسار الأديب الكولومبي الأصل غابرييل غارسيا ماركيز المتوقف عن الكتابة منذ سنة في انتظار الإلهام ، وكيفية اشتغاله داخل ورشته بمعية كتاب آخرين وكيفية كتاباتهم للقصص داخل الورشة.

في بداية البرنامج يسرد "غابو"، الكيفية التي ابتدأت فيها فكرة الكتابة هناك بمكسيكو حيث طلب منه إنجاز ثلاث عشرة قصة حب تدور أحداثها في أميركا اللاتينية، مدة كل واحدة منها نصف ساعة، ولمباشرة هذا العمل "اجتمع عشرة من العاملين في حقل السينما كتابة وإخراجا، من أميركا اللاتينية واسبانيا في ورشة سيناريو يديرها ماركيز في ما يشبه فرقة أوركسترا صغيرة تبحث عن قطعة موسيقية، تصوغها وتعزفها، لكن الورشة هنا تبحث عن قصة أو فكرة، الجمال، وتعطيها ملامحها الخاصة في سيناريو سينمائي تلفزيوني، يرسم الحدود المتصلة بين الأدب والسينما".

إن كل قصة تحمل معها تقنيتها الخاصة ، والمهم بالنسبة لكاتب السيناريو هو اكتشاف تلك التقنية، وفي محاولة جديدة تتسم بالذكاء الحرفي عمل الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز على اختبار جدارة هذا التصور الفني على الكتابة الإبداعية من خلال تأسيس ورشة لكتابة السيناريو يرتكز عملها بشكل مباشر على تحويل الفكرة النظرية إلى ممارسة كتابية متفردة تدخل في التفاصيل وتنقب عن الجودة حينما تبحث عن نواة قصة ما تروى بصورة جيدة طالما أن ليس هناك ما هو أسوء من قصة يجري تطويلها كما يزعم غابو الاسم الذي يطلقه أعضاء الورشة على غارسيا ماركيز.

وكما جاء في التقديم فإن أنصاف الساعات هذه تتبناها جهة إنتاجية تقوم بتحويلها إلى الشاشة باتفاق جماعي، فيما تخصص ورشة ماركيز ريع بيع هذه القصص لمدرسة "سان انطونيو دي لوس بانيوس" الدولية للسينما والتلفزيون.

يدرك ماركيز أن متطلبات السوق اليوم تقتضي تقديم أعمال تتسم بالإثارة والتشويق والمغزى الواضح ، لذا نراه يحاول لفت انتباه مجموعته إلى مبدأ صناعة نص أدبي سينمائي جيد يتصف بالطرافة والإبداع والخفة من دون أن يتحول مبدعه إلى سلعة
وقبل الشروع في العمل يشير ماركيز إلى نفسه قائلا: "إن أكثر ما يهمني في هذا العالم هو عملية الإبداع، أي سر هو هذا الذي يجعل مجرد الرغبة في رواية القصص تتحول إلى هوى يمكن لكائن بشري أن يموت من أجله، أن يموت جوعا، أو بردا، أو من أي شيء آخر لمجرد عمل هذا الشيء الذي لا يمكن رؤيته أو لمسه، وهو شيء في نهاية المطاف، إذا ما أمعنا النظر، لا ينفع في أي شئ " ويمكننا أن نرى بمجرد الرغبة في إنجاح عمل الورشة وتقديم نتائجها للقراء في سلسلة كتب إبداعية، يعني إصرارا حقيقيا على مواصلة الحياة.


تبنى طريقة العمل في الورشة على الحوار الصريح والجاد وبمشاركة جميع الأعضاء ، حيث يباشر أحدهم بطرح فكرة ما أو اقتراح صورة مشهد، يتلقفها الباقون ويطورونها إلى أقصى حد ممكن، مع محاولة تفكيك القصص وإعادة تركيبها من جديد، ثم تأخذ الفكرة أي القصة بالتداول في ما بينهم بحيوية وجرأة تكسبها جمالا وتأثيرا ملحوظين، وعندما يحين موعد نضجها، تتركز جهودهم لإعادة صياغة البناء وتشذيب الأحداث والشخصيات بما يجعلها ذات سياق قصصي متسق يصلح للعرض على الشاشة.

أما في حال لم يتوصل أعضاء الورشة إلى صيغة نصية متفق عليها، وأخذت الفكرة تنتقل بينهم من دون أن تتطور، فمعنى ذلك أن ثمة خللا ما في الحكاية، ويفضل تركها إلى حين، ولكي لا تتكرر الأخطاء يشير ماركيز إلى فكرة الاستبعاد، داخل النص أو خارجه، فإذا أحسست أن هذا الجزء غير ملائم، لا تحاول أن تتمسك به عنوة ، فقط لأنك أنجزته
ونراه يلمح في مكان آخر إلى أن "الكاتب الجيد لا يُعرف بما ينشره بقدر ما يعرف بما يلقيه في سلة المهملات".

ومن سياق مقارب يحث ماركيز أعضاء الورشة على المضي في الطريق السليم مذكرا : أن "على أحدنا حين يكتب أن يكون مقتنعا بأنه أفضل من سرفانتس، أما عكس ذلك فان المرء سينتهي لأن يكون أسوء مما هو في الواقع … فمن الصعب العثور على قصة لا تتشابه بطريقة ما مع أشياء كثيرة".

وعند اكتمال القصة توكل لأحد الأعضاء مهمة إعدادها كسيناريو سينمائي أو تلفزيوني، ويشدد ماركيز غيرما مرة على فكرته الرئيسة بطرق مختلفة تتلخص في قوله: "إذا كانت لدى المرء قصة جيدة، يمكن أن تروى بطريقة واضحة وبسيطة، فعليه أن يتجنب تعقيدها"، ورغم أن أغلب الاعتبارات التي توجه صياغة القصص في ورشة ماركيز هي اعتبارات فنية سينمائية ، لكن شواهد الخبرة الأدبية الواسعة يجري اعتمادها أيضا وبشكل أساسي، فالعمل السينمائي والأدبي متلازمان في جوانب كثيرة رغم اختلافهما البائن في أمور عدة. لقد كان غابو روائي مولع بالخرافة الواقعية ـ يعتقد بنقطة جوهرية تتمثل في "كون السينما تحب المبالغة، لكن ليس بمقدار ما في الواقع من مبالغة".

وتعتبر خبرة ماركيز كأديب محترف له تجربته الخاصة تهيمن على حوارات الورشة وتستحث جهود المجموعة على الاقتراح والمبادرة والتفكير بأفق مبدع، لذا تستحق أن توصف بأنها دروس أدبية وفنية لها أهميتها ودورها التحفيزي، خاصة وهي تتلبس بحس جدلي غير مفتعل شكل الملاحظة المشاكسة أوالجزم بأمر مرفوض فنيا، من دون أن يقلل ذلك من شأن آراء الآخرين التي تبدو لماحة وذكية عندما تكشف عن خبرة واسعة في مجال كتابة السيناريو وتأثيث المشهد السينمائي بثراء صوري مدروس.

ثمة دروس عدة يمكن لماركيز أن يقدمها لكتاب القصة أو المشتغلين بالسيناريو، وأهم تلك الدروس تحسين قدرة الكاتب على الإيجاز والترميز، "فلابد من إقرار المستويات والأوزان في القصة، مثلما هي الحال في الملاكمة" بتعبير غابو، بمعنى تكثيف انتباه القاص إلى مسار قصته حتى لا يضطر إلى التفكير لاحقا بوضع طريقة لإنقاذها من المأزق، هكذا يكشف لنا ماركيز عن سر الكتابة الجيدة والتي تبدو التزامه الوحيد، بالقول: "إذا كنت لا تستطيع رواية قصة في صفحة واحدة، فاختصرها إلى صفحة واحدة".

الارتكاز على مقدرة الخيال و للواقع مسألة مهمة بالنسبة لأي كاتب، بقدر أهمية إيمانه بما هو فاعل، فأية قصة خرافية، ستصبح حقيقة تماما طالما آمنت بها في أواخر البرنامج وعند اقتراب انتهائه بدأ غابو يستعيد أمام أصدقائه ردود فعله على قرار منحه جائزة نوبل، بالقول : "يا للعنة، لقد صدقوها (لقد ابتلعوا الأكذوبة) هذه الجرعة من عدم اليقين رهيبة جدا ولكنها ضرورية في الوقت نفسه لعمل شيء جدير بالعناء
أما المتعجرفون الذين يعرفون كل شئ، والذين لا تراودهم الشكوك مطلقا، فيتلقون صدمات مروعة، ويموتون بفعلها".

ليس من المبالغة القول إن هذا الكتاب يعلّم الأديب والسينمائي أكثر مما تعلمه الكتب النظرية على كثرتها، ولأسباب تتعلق بطريقة تأليفه، وللدقة نقول طريقة تعامله، بوصفها عمل جماعي يرتكز الخبرة والخيال معا.

للإشارة فغابرييل غارسيا ماركيز (78 عاما)، حائز على جائزة نوبل للآداب عام 1982 عن روايته "One Hundred Years of Solitude" مائة عام من العزلة، ومن آخر رواياته التي ترجمت إلى عشرات اللغات الحيّة، "الحب في زمن الكوليرا"، وصدر له في عام 2002 رواية "العيش لسرد الرواية"، أما آخر إصدار له فهي رواية Memories of My Melancholy Whores.




تابعونا على فيسبوك