روح الحداثة أحدث إصدارات طه عبد الرحمن

الأمم الحضارية تستوي كلها في الانتساب إلى روح الحداثة

السبت 11 مارس 2006 - 13:16

"روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية" هو أحدث إصدارات الفيلسوف المجدد طه عبد الرحمن، والصادر منذ أسابيع قليلة عن المركز الثقافي العربي (بيروت) الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2005 287 صفحة من الحجم الكبير.

ويأتي هذا العمل ليضع لَبنات الحداثة الإسلامية بعد كتاب "سؤال الأخلاق" الذي بسط فيه نقده للحداثة الغربية، يسعى هذا الكتاب إلى أن يُبصِّر الحداثيين بما هم فيه من تقليد مُطبِق، لفتح فضاء الإبداع، وذلك عن طريق التفريق بين ما يصفه المؤلف بـ "روح الحداثة" التي ينبغي حفظها و"واقع الحداثة" الذي يمكن تركه إلى واقع غيره لا يقلُّ عنه حداثة؛ كما يسعى طه عبد الرحمن من خلال عمله هذا إلى أن يُخرج التراثيين بدورهم مما هم فيه من تقليد مُعيق، لفتح فضاء الاجتهاد لهم، وذلك عن طريق تطبيق روح الحداثة على مقتضى التداول الإسلامي.

وفي هذا الشق الثاني رد صارم على تهمة "الأصولية الفلسفية" التي وجهها أحد الباحثين لفيلسوف الأخلاق، أما الكتاب في مجمله، فيؤسس لقراءة تفكيكية مغايرة بالمرة مع القراءات العربية والإسلامية التي تطرقت لموضوع الحداثة.

الهمة الأخلاقية أقوى من الأمر الواقع
برأي طه عبد الرحمن، بلغ تعلق النقاد العرب بالحداثة الغربية أن توهموا أنها واقع لا يزول، وحتمية لا تحول، وأنها نافعة لا ضرر فيها، وكاملة لا نقص معها، فحجَبهم هذا التعلُّق عن أن يتبيَّنوا ما في كتابه السابق "سؤال الأخلاق : مساهمة في نقد الحداثة الغربية" من أصول أخلاقية مصحِّحة لمسار هذه الحداثة لم يقلّد فيها أحدا، ونذكر منها الأصول التالية: ـ أن الأخلاق صفات ضرورية يختل بفقدها نظام الحياة لدى الإنسان، وليست هي مجرد صفات عرضية أو كمالية لا يقدح تركُها إلا في مروءته.
ـ أن ماهية الإنسان تُحدِّدها الأخلاق وليس العقل، بحيث يكون العقل تابعا للأخلاق
ـ أن الأخلاق مستمدة من الدين حتى أنه يحكم بالتناقض على قول القائل : "الأخلاق العلمانية".
ـ أن الإنسان بموجب أخلاقيته، لا يستطيع أن يتجرد كليا من حال التدين ولو سعى إلى ذلك ما سعى
ـ أن الهمة الأخلاقية للإنسان أقوى من الأمر الواقع.

في ما يتعلق بضيف هذا العرض، فمداره على الأطروحة التالية : "كما أن هناك حداثة غير إسلامية، فكذلك ينبغي أن تكون هناك حداثة إسلامية"، فلا يعقل أن يتقرر في الأذهان أن الحداثة تأتي بالمنافع والخيرات التي تَصلُح بها البشرية، وأن تتحقق هذه المنافع والخيرات في الأعيان، ثم لا يكون هذا الجزء النافع منها متضمنا في الحقيقة الإسلامية؛ خاصة وأن الزمن الإسلامي يبقى بمنزلة الزمن الأخلاقي الذي تتحقق فيه ظاهرة الحداثة والذي يتمّم ما نقص في سابق الأزمان من المكارم تذكروا القول النبوي الشهير: "إنما بُعِثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ويتوقف المؤلف في الهامش عند دلالات الدين الخاتم الخاصة بالإسلام دون سواه، ناهيكم، يضيف د طه، عن أن كل دين مُنزل يَمدُّ الإنسان بأسباب الصلاح في دنياه، فضلا عن أسباب الفلاح في أخراه؛ ليخلص إلى ضرورة دخول الحداثة الصالحة في الممارسة الإسلامية.

"روح الحداثة" و"واقع الحداثة"
بسط المؤلف في المدخل التنظيري العام الأصول التي تتأسس عليها نظريته في الحداثة والقائمة على التفريق بين "روح الحداثة" و"واقع الحداثة"، وتتكون هذه الأصول العامة من ثلاثة مبادئ تتحدد بها روح الحداثة، وهي : "مبدأ الرشد" الذي يتكون من ركنين هما: "الاستقلال" و"الإبداع"، و"مبدأ النقد" الذي يتكون من ركنين هما: "التعقيل" و"التفصيل"، وأخيرا "مبدأ الشمول" الذي يتكون من ركنين هو الآخر هما: "التوسع" و"التعميم".

وبعد أن فرغ من التنظير، استعرض عمليات التطبيق الإسلامي لروح الحداثة في حالات معينة التزم في انتقائها ـ لأن الأمر ليس بالهزل أو العشوائية ـ بما يصفه معيار "النموذجية المُثْلى"، ومقتضاه أن الحالات المختارة ينبغي أن تكون أفضل النماذج التي يمكن أن يُجرَى عليها هذا التطبيق.

يتفرع الكتاب على ثلاثة أبواب، واختص كل باب بتطبيق مبدإ واحدٍ من المبادئ الثلاثة لروح الحداثة على حالتين نموذجيتين، كل حالة تطبّق ركنا من ركني هذا المبدإ
وهكذا تفرَّد الباب الأول بتطبيق مبدإ النقد على نموذجين أمثلين، خصَّص لكل منهما فصلا مستقلا، وهما نظام العولمة ونظام الأسرة الغربية.

وتولى الباب الثاني تطبيق مبدإ الرشد على نموذجين أمثلين دائما، وهما الترجمة الحداثية والقراءة الحداثية للقرآن، والحق أن هذا الفصل يأتي في زمانه، بحيث نكاد نعجز عن حصر عدد المحاضرات والندوات التي نظمت خلال السنين الأخيرة حول موضوع القراءات الحديثة أو الحداثية للقرآن، كما اختص الباب الثالث بتطبيق مبدإ الشمول على نموذجين أمثلين كذلك، وهما حق المواطنة وواجب التضامن.

لا شك أن التصنيف الجديد الذي وضعه طه عبد الرحمن للترجمات في الفصل الأول من الباب الثاني، ما بين "ترجمة منطقية" و"ترجمة دلالية" و"ترجمة تركيبية" يحيل متتبع أعمال هذا الفيلسوف المجدد إلى علاقته بالتصنيف الوارد في الجزء الأول من كتاب "فقه الفلسفة: الفلسفة والترجمة"، حيث الحديث عن "ترجمة تحصيلية" و"ترجمة توصيلية" و"ترجمة تأصيلية".

والحقيقة ـ وهذا توضيح يشير إليه المؤلف في الهامش، ص 169 ـ أن التصنيفين متقاربان، بل متداخلان، إذ التصنيف الحالي الوارد في "روح الحداثة" يتعلق بمجال الفكر على وجه العموم، وقد روعي في وضعه اعتبار درجة الاستقلال المسؤول الذي يتمتع به المترجم؛ في حين أن التصنيف السابق الذي جاء في الجزء الأول من تحفة "فقه الفلسفة" يتعلق بالمجال الفلسفي خاصة، وقد روعي في وضعه اعتبار درجة القدرة على الإبداع الفلسفي التي يمدُّ بها المتلقي؛ كما أنه يقابل بين التصنيفين؛ فالترجمة المنطقية تقابل الترجمة التأصيلية، والترجمة الدلالية تقابل الترجمة التوصيلية والترجمة التركيبية تقابل الترجمة التحصيلية.

ولا شك أيضا أن المطلع على هذا المدخل المهم بالذات، سوف يندهش أو يُستفز عندما يجد أن طه عبد الرحمن لم يذكر المبادئ التي اشتهر تداولها في أوساط الدارسين لظاهرة الحداثة مثل "مبدأ العقلانية" و"مبدأ الذاتية" و"مبدأ الفردانية" و"مبدأ الإنسانية" و"مبدأ الحرية" و"مبدأ العلمانية" وغيرها، حيث يعُدُّ طه عبد الرحمن بعض هذه المبادئ متفرعا على المبادئ التي ارتضاها، وبعضها يدخل ضمن ما يسميه "مُسلمات التطبيق الحداثي الغربي".

وأحد هذه المبادئ المبتذلة، يضيف المؤلف ـ ونحن نستشهد فقط بالذي جاء في أحد هوامش المدخل التنظيري ص 24 ـ مبدأ العقلانية الذي غلب على الدارسين من العرب والمسلمين أن يجعلوه المبدأ الأساسي المحدد لحقيقة الحداثة، مقلدين في ذلك أساتذتهم من نقاد الغرب، والواقع أن العقلانية تندرج ضمن الأصول الثلاثة التي أخذ بها المؤلف في تحديد روح الحداثة، حيث تندرج في مبدإ النقد باعتبارها وسيلة له، وتندرج في مبدإ الرشد باعتبارها أصلا له، وتندرج في مبدإ الشمول باعتبارها سببا فيه؛ مما يُخوِّل له الاستغناء عنها كمبدإ مستقل بنفسه، إذ تنزل رتبة غير رتبتها، فهي أعم، وهذه المبادئ أخص؛ والذين جعلوا العقلانية واحدا من مبادئ الحداثة إنما وقعوا في تضييق مدلولها، حتى حصروها في النظر الآلي أو الأداتي وحده، مع التذكير بأن العقلانية لم تختص بها الحداثة الغربية كما يُزعَم، ولا لها شكل واحد ولا لها مرتبة واحدة، بل إنها ظلت كل يقظة حضارية تَحقَّق بها الإنسان على مدى تاريخه الطويل، وبالنسبة لتخصيص الحداثة بها، فهو خطأ ناتج عن التقديس الذي أحاطه بها بعضهم .

الحداثة الحقة تُبتَكر من الداخل
نأتي لزبدة مدخل الكتاب، وتتفرع على طبيعة التعريف الذي ساقه المؤلف لروح الحداثة، ونوجزه في النتائج التالية : ـ كون روح الحداثة تختلف عن واقع الحداثة.
ـ وأن واقع الحداثة الغربية هو واحد من التطبيقات الممكنة لروح الحداثة
ـ أن روح الحداثة متأصلة إنسانيا وتاريخيا
ـ أن الأمم الحضارية كلها تستوي في الانتساب إلى روح الحداثة
ـ أن واقع المجتمعات الإسلامية هو أقرب إلى الحداثة المُقلِّدة منه الحداثة المبدِعة
ـ أن الحداثة لا تُنقل من الخارج، وإنما تُبتَكر من الداخل
ـ وأخيرا، كون ابتكار الحداثة الإسلامية الداخلية يستلزم إبطال المسلمات التي صاحَبت تطبيق الغرب لروح الحداثة، وأدخلت عليه آفات تختلف باختلاف أركان هذه الروح، ولا يسعنا إلا أن نسرد استشهادا موجزا لهذا الإبطال، وجاء في ست نقاط : إبطال مُسلّمات الاستقلال الغربي، وصاية الأقوى ليست عناية بالأضعف والوصاية في الداخل قد لا تكون وصاية رجال الدين، وإبطال مسلمات الإبداع الغربي الإبداع لا يقتضي الانقطاع المطلق، لأن الحداثة الحقة هي حداثة قِيَم لا حداثة زمن، وإبطال مسلمات التعقيل الغربي العقل لا يعقل كل شيء، وإبطال مسلمات التفصيل الغربي لا إطلاق في الفصل بين الحداثة والدين، ولا إطلاق في الفصل بين العقل والدين ولا محو للقدسية من أفق الإنسان وإبطال مسلمات التوسع الغربي التطبيق الغربي لروح الحداثة ليس واقعا حتميا، لأن الإنسان أقوى من هذا التطبيق وأخيرا، إبطال مسلمات التعميم الغربي روح الحداثة لا توجب التفكير الفرداني، والحداثة العلمانية لا تحفظ حُرمة الأديان، وليست كونية قِيَم الحداثة الغربية كونية إطلاقية، وإنما كونية سياقية، "لِمَ الاشتغال بالتطبيق الإسلامي لروح الحداثة، وقد انتقلت الإنسانية من طور الحداثة إلى طور "الما بعد حداثة"؟".

اعتراض مشروع على الأطروحة الناظمة لكتاب "روح الحداثة"، وقد خُصِّصت خاتمة أحدث مؤلفات طه عبد الرحمن وجاءت تحت عنوان "سؤال المشروعية" للرد على كذا اعتراض
يجيب د طه عن هذا الاعتراض على أربع مراتب، أكد في أولاها كيف أن الأمة الإسلامية تحتاج إلى أن تتعامل مع المفاهيم المخترَعة التي شاع تداولها عند الأمم الأخرى وأن تخرّجَها على قواعد مجالها التداولي، بدءا من "الحداثة" و"المابعدحداثة"؛ وأبرز في المرتبة الثانية كيف أن مفهوم "الما بعد حداثة" ليس له معنى واحد، وإنما معان عدة؛ وأوضح في المرتبة الثالثة كيف أن وجود الطور الحداثي والطور المابعدحداثي يقضي بافتراض أصل مشترك ينبنيان عليه، وهذا الأصل هو بالذات "روح الحداثة"؛ وأخيرا كشف في المرتبة الرابعة كيف أن التطبيق الإسلامي لروح الحداثة لا يكتفي بأن يكون واحدا من تطبيقاتها الممكنة، بل أيضا يهدف إلى الارتقاء بالفعل الحداثي.

وبعد أن فرغ من بيان هذه الرتب الأربع، يخلص إلى أن الاشتغال بالتطبيق الإسلامي لروح الحداثة اشتغال لا يقل مشروعية عن الاشتغال بالتطبيق الغربي لهذه الروح في تقييم العمل ما قبل الأخير لطه عبد الرحمن"الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري".

وصف الناقد محمد علوط الكتاب بأنه قائم على عمق في التحليل وأصالة في التنظير، وأنه "جهد فلسفي نراه حداثيا في أطروحاته سجاليا في مطارحاته، وتنظيريا في اشتغاله على ظاهرة محايثة لنا، ومصوغا بلغة راقية ترفض الابتذال والتسطيح والارتجال، سواء على مستوى التصور النظري، أو الترتيب المقصدي لأبواب الكتاب وفصوله وفروعه".

(محمد علوط نحو فلسفة أخلاقية لتحديث المجتمع العربي الصحراء المغربية عدد 2005/6/6).
نصطدم إيجابا بنفس التقييم في معرض الاطلاع على ما حفِل به كتاب "روح الحداثة"




تابعونا على فيسبوك