لغة الملائكةللشاعر عزالدين الإدريسي

نحو مدارج الطهر والصفاء

الجمعة 04 غشت 2006 - 14:12

عن مطبعة النجاح الجديدة بالدارالبيضاء، صدر للشاعر والأديب عزالدين الإدريسي ديوان "لغة الملائكة"، وهو في جزأين، وكل جزء يشتمل على ما يزيد عن 200 قصيدة شعرية.

وقام بتصميم ورسم لوحة الغلاف الفنان التشكيلي حسن لكلاوي، في حين الخطوط والتصاميم والإخراج الفني للخطاط شفيق تميري أول ما يشد القارىء، وهو يتفحص الإصدار الجديد للشاعر عز الدين الإدريسي، ذلك الإهداء الذي يتصدر عتبة الديوان، فهو إهداء لسيد البشرية أزكى صلوات الله عليه ونورده بالحرف "إلى الاسم الذي سبا فؤادي وشدا له لساني، خير الأسماء في الأرض وفي السماء، محمد فلذة الكبد ونور البصر وامتداد أريج الروح".

كم هو جميل أن نقرأ عبارات الكاتب الكبير الأستاذ محمد الصباغ، التي خص بها تقديم الديوان، إنه بحق فارس ترجل من جواد اللغة، تاركا أثر أول الماء، وأول الكلام، لغة الصباغ تركت في كياننا دهشة البدء، وصدى الانبهار، لذا نقتطف من فضاء التقديم ما يلي : "
تلكم لغتي الملائكية، لغة اللغات، اللغة الجنة وكوثرها السلسبيل الغريد الشادي
لا تعتريني محاكاة، ولا يمسني تصنيف ولا يشكلني رسم، أو ينقشني نحت، ولا يقيدني تاريخ، ولا يؤبجدني قاموس، أو تنقلني ترجمة، أو تفصلني فاصلة، أو تحدني نقطة أو يحكمني تحريف أو يمحوني نسيان، أو تسقطني عثرة لحن، أو لثغة ركاكة، مستعصية عن الإعراب السيبويه، والمنطق اللغوي، والتصريف الاشتقاقي، وهلم ملائكية".

مضيفا في التقديم ذاته : "لعل هذه الملائكيات، الملكوتيات، الشريفات، المتصوفات، افتتن بها العز الإدريسي افتتانا صبا، عاشقا لها مبرحا، موحيات له سائغات حد الجذبة الشعرية الإدريسية الليان ـ كما يلوح لي ـ فسكنت مرهفات وجدانياته، إلى أن رصعها عنوانا متوجا لديوانه قلادتئذ باسم "لغة الملائكة".

وليس من اليسير المهيد أن يبلغ مؤلفه سماوة هذا الإدراك المرصع المتوج، إلا إذا كان مزدهرا مزخرفا برفاهة الحس، ورنوة الحذق، وأفنون الرؤيا، وثروة الخيال المشرف السائب في البهاء".

ترى، هل بلغت الصبابة الصداحة بشاعرية المؤلف العاشق، ذلك الإفتتان الساطع، فهيمنت عليه متأثرا بها أسيرا في ملكوتها؟ مفردات المعرفة الكبرى لا الصغرى ربما لم تكن صدفة جميلة، ولا حتى نسمة عابرة، أن نجد إيحاءات ربانية عنفوانية تخضب أبيات الديوان.

فانطلاقا من العنوان الذي اختار له صاحبه "لغة الملائكة"تتبدى لنا تلك النسمات اللطيفة، وذلك الدفق الشاعري الروحاني، إذ التجلي واضح، والرؤيا إنسانية كونية، والتماهي بالسمو طافح في تضاعيف الديوان ككل، وكأني بالشاعر عزالدين الإدريسي يسترشد بلغة حالمة، هي لغة الوجد، ولغة ترجمان الأشواق، إذ يقترب من لغة ابن حزم حينا ويتجاوزها، حينما يتعلق الأمر بالغوص في أمور الدين من خلال قصائد ذات إيقاعات ربانية تنتصب جسورة نابضة بالحياة.

فلا غرو أن تتقدم قصيدة "الله"الجزء الأول من الديوان بلغة سماوية ذات حمولة دينية، قلما صادفناها في دواوين شعرية أخرى، لشعراء آخرين، ونقتطف من هذه الشذرات : الله كاين، كاين الله، جل جلاله في كل مكان في رفة الفراش الزمردي يرشف رحيق الأقحوان وأنفاس الوردة الندية وهي تتضوع بعض الريحان وشدو البلبلة الجميلة وهي تغرد بأبهي وأحلى الألحان في صباحات السحر وانهمار أنوار شفق الألوان والساقية تصحو من نعاسها وفي كل قطرة لها شوق من الظمآن
٭٭٭ ويفهم لغة الطير ساجدا، ناسكا لعزة الله في هوان وجناحاه قادران على التحليق بعيدا في آفاق الأكوان.

٭٭٭ مساحة حب لا متناه، لمن شهد الله فعرفه، وعرف بديع صنعه في كل مكان "ص 11 ـ 12" ـ الجزء الأولالمعجم اللغوي لعز الدين الإدريسي زاخر، قوي بالدلالات والإيحاءات
فالمفردات ضبطت بقياس المعرفة الكبرى لا الصغرى، سابحة في أمور الدين والدنيا، وما يحتاجه الإنسان من شحنة عاطفية إزاء خالقه.

الكل يسبح، الطير في عليائه، والورود في حدائقها الفيحاء، والفراشات في تنقلها بين الأزهار والأقحوان الملاحظ على مستوى اللغة الشعرية في قصيدة "الله"و"لا غالب إلا الله"و"إلهي ما أقربك"، ومثيلاتها إلى حد ما، انجذابها وهوسها بالسهل الممتنع وبالصورة والإيقاعات الداخلية، والجرس الصواتي، والتشاكلات الصوتية الموحية والدالة.

إن ما أقدم عليه الشاعر عز الدين الإدريسي شبيه بالرؤيا الإشراقية التي تتأسس على مبدأ : "إذا ضاقت الإشارة اتسعت العبارة"والعكس صحيح، كما يقول شاعر الصوفية النفري، وهي رؤيا حلمية تنشد كيمياء الحب مع الكائنات والمخلوقات والأشياء إلى بلوغ التيه والجنون والوحدة والشوق لهذا نجده يقول في قصيدة "إلهي ما أقربك" إلهي، ما أقربكومن عيوني إذا فتحتها لإراك في آفاق الكون الشاسع، حيث لا حدود لمداك وفي أعماق اليم، حيث لا ضفاف لبحورك وفي فضاءات الوجود، حيث تضيق بأمرك وفي كل ما خلقته على الأرض من بديع صنعك.

٭٭٭ للوردة وهي تفتح أكمامها في الصباح وقطر الندى يغسل أوراقها في انشراح والفراش يحوم حول رحيقها بهبوب جناح "ص 15".

في هذا النص كما في غيره، يستدرج الشاعر القارىء إلى حديقته السرية، وتحديدا إلى جناحه الشعري ليتنزل معه مواقع الوحي والإلهام الإبداعي، فمضارب القصيدة وخمائلها لا شبيه لها إنها استثناء، كاستثناء كل القصائد المتفردة في التاريخ الإنساني القصائد.

تتميز في ديوان "لغة الملائكة"بقصر النفس، إلا أن حمولتها الإستيتيقية والجمالية تجعل منها نهرا دافقا يمزج بين التفاصيل والكليات بحرفية متمكنة، ففي كل قصيدة مبتغى أدبي، وموقف إبداعي، ومن هذا الموقف تنبعث قصائد أخرى.

إن مخيلة الشاعر خصبة، وذاكرته فياضة تمتح من بحر الحب والجمال في وضوح شفاف كأن كل قصيدة زهرة ربيعية متفتحة على هوى الحياة وسكون العالم.

سمفونية النقاء والبراءة في الجزء الثاني من ديوان "لغة الملائكة"ظل الشاعر وفيا لمرابعه الخضراء ولخطواته الأولى، إذ فتح هذا الجزء بقصيدة اختار لها عنوان "نور على نور"، مضمنا إياها آية كريمة، وهي "الله نور السماوات والأرض".

وللوقوف أكثر على عالمه الشعري الصوفي، حيث السفر إلى المدارج الطاهرة، وإلى السمو الروحي، نورد القصيدة كاملة، يقول عز الدين الإدريسي في "نور على نور"ما يلي : نور على نور هو نور الله المتجلي في الأكوان سناء الضوء المنثور، الولهان
افترار وردة عذراء في وجه السماء وانسياب جدول في بهجة الانتشاء، وتسبيحة ياسمينة في هبوب بياض، وبوح صفصافة سامقة بعشقها للغمام، وزغردة عطر، ساكن بين الأكمام
وتضوع رحيق مختف بين الأوراق وسجدة أنجم في أعالي الجوزاء، وصلوات بحر هائج، متلاطم الأمواج

وعناق أجنحة طير جامح في الفضاء للمدى الواسع في انبهار الأشياء، يملأ نسيم بارد، عليل رئة العصفور، ليسابق أشعة الشمس في كف الفناء، ورموشه تتسلق المدى فوق صهوة الرجاء أن يذكر الله في زقزقة تشبه رقرقة الغناء تلاوة من العشق الإلهي في شغاف الفضاء يذوب النداء من القلب إلى شرايين الهواء ليتلاشى نورا على نور في شفوف الصفاء ويذرف دمعا غزيرا من الخوف والخشوع والحياء لرب العزة وصاحب الجلالة والمتكبر فوق الكبرياء من عرشه العظيم فوق السماوات العلا بالهدى والثناء والولاء المعطر، الخالص، الشكور بالحمد والبكاء.

يمكن القول في هذه القصيدة، إن الشاعر عز الدين الإدريسي راوح في بيان كتابتها الشعرية بين لغة الحلم، ولغة الاستشكاف، لغة تستبطن مداراة الأشياء والكائنات والمخلوقات في غدوها ورواحها، في مساءاتها وصباحاتها في سكونها وصخبها في مناجاتها الخالق في تضرع وخشوع عبر مقامات متعددة، ومدارج بيضاء تنشد الطهر والصفاء.

ديوان "لغة الملائكة"حسب إدراكنا لجهازه المفاهيمي وقراءتنا لمجموعة من القصائد التي يزخر بها الديوان، هو بيان عرفاني، بيان كشف ومكاشفة فالشاعر يروم إلى مقاربة جوهر الأشياء، ويراهن على رصد العمق والثابت في العلائق الوجودية، ومبتغاه وصول سدرة منتهى وجودها يقبض على الحقائق بالنواجد، بطقس العارفين ويقظتهم، وبصمت العقلاء ونجابتهم يخط ديوان "لغة الملائكة"لديوان في جزأيه طافح بلغة الوجد والإكبار
ولعمري أن الشاعر يغرف بكلتا يديه من بحر هادىء، هدوء الرائين، إذ كل قصيدة يفوح منها عبير حديقته السرية، ومعجمه الدلالي.

الأكيد أن الشاعر وهو يرسم أبجديات قصائده البليغة التي نضجت على نار هادئة، استرشد بعنفوان الحياة والوجود، حيث أولى عناية خاصة بمدارج الواقع والخيال معا
"لغة الملائكة"أيضا تتوج صورة شاعر له مكانته الأصيلة في خضم القصيدة الحرة، القريبة إلى النثر، فهذا الديوان يمنحه موقعا اعتباريا لا سبيل إلى إنكاره، أو تجاوزه، مهما اختلفت ذائقتنا الشعرية، ومهما تلونت الصور التي توجه اليوم ذائقة المتلقي.




تابعونا على فيسبوك