حمولة شاعرية بعيدا عن الخطابة السياسية

طيارة من ورق: حب من وراء الأسلاك الشائكة

الأربعاء 15 مارس 2006 - 10:28
لقطة من الفيلم

في العام 1999 فاجأت المخرجة اللبنانية رندة الشهال، الفائزة بجائزة اليونسكو بمهرجان البندقية السينمائي الدولي عن فيلمها "متحضرات" مناصفة مع المخرج الإسرائيلي عاموس عيتاي، المنظمين برفضها تسلم الجائزة وتقاسمها مع المخرج الإسرائيلي دون اعتبار لما يمكن أن يتب

لكنها عادت أربع سنوات بعد ذلك للمشاركة في التظاهرة نفسها بشريط "طيارة من ورق" والفوز بجائزة الأسد الفضي كثاني أفضل فيلم بعد شريط "العودة" الروسي لمخرجه أندريه زفياجينيتسيف.

طيارة من ورق فيلم صورته رندة الشهال بالجنوب اللبناني في عز الأزمة التي تلت تفجير برجي مركز التجارة العالمي بنيويورك، حيث صادف الحادي عشر من شتنبر 2001 أول يوم للتصوير.

وتلك معطيات تاريخية فاصلة ومؤثرة لم تنل أبدا من الحمولة الشاعرية والبعد الإنساني الذي طبع شخصيات وأحداث الشريط بعيدا عن الخطابة السياسية، التي غذتها تلك التطورات الإقليمية والدولية أكثر من أي وقت مضى .

إضافة إلى الخلفية السياسية الواضحة، التي تؤطر الحدث العام المبنية على مناقشة موضوع وضعية طائفة الموحدين الدروز الموزعين بين انتماء عقدي إسلامي موحد، وانتماء سياسي مشتت بين لبنان وإسرائيل، وما قد يخلفه ذلك من مشاعر متناقضة هوية وانتماء في منطقة متوترة كالحدود اللبنانية الإسرائيلية.

ففي هذا الوضع يتحول ابن العم إلى عدو لذود وجبت مواجهته بالسلاح دفاعا عن أرض "مغتصبة" ومتنازع عليها تشكل للطرفين وطنا وملاذا رغم كل الظروف والعلائق الاجتماعية والدينية.

وليس أبلغ من استغلال مرحلة الطفولة نموذجا دراميا لتجاوز كل حسابات عالم الكبار المعقدة التي ما كانت لتترك الفيلم سائرا بإيقاع سلس، مؤثر وشاعري وذاك ما توفقت فيه رندة الشهال في تعاملها مع قصة المراهقة لمياء، المنتمية للجانب اللبناني من الطائفة الدرزية، حيث تأصلت أعراف وتقاليد لم تستطع حقائق الجغرافيا المعاصرة محوها من الذاكرة الجماعية كضرورة الزواج من داخل الطائفة ولو بين شباب وشابات من الجانبين "المتصارعين".

هكذا كان قدر لمياء الاقتران بشاب من عائلتها على الحدود من جهة إسرائيل، وهما اللذان لم يسبق لهما التعرف إلى بعضهما باستثناء ما حملته شرائط الفيديو المتبادلة بين الأهل.

لمياء فتاة في مقتبل العمر ألفت اللعب مع شقيقها الأصغر وزملائه بالقرب من المنطقة العازلة، واللعبة المفضلة كانت طيارات الورق، فإذا كان الطيران الإسرائيلي يخرق كل لحظة وحين، المجال الجوي اللبناني لضرب قلاع حزب الله والمقاومة الجنوبية،فإن طيارات الأطفال الورقية تمكنت بالمقابل من تجاوز الأسلاك الشائكة للحدود الوهمية ،تحت أنظار عاجزة من جنود الاحتلال المرابطين هناك، دون خوف من تعرضها للإسقاط أو الدخول في مواجهة عسكرية جوية تبدو إسرائيل أكثر قدرة على تدبيرها.

إنه نموذج للرمزية وسخرية القدر التي حفل بها الشريط في إيحاءات تحيلنا على فيلم (يد إلهية) للمخرج الفلسطيني إيلي سليمان، حيث استطاع الرئيس الراحل ياسر عرفات اجتياز كل المعابر الحدودية، رغم أنف حراسها، والتحليق فوق سماء القدس من خلال رسم وجهه الموشوم على بالون صغير أبى بطل الشريط إلا الدفع به في السماء المفتوحة لتحمله الرياح معانقا مساجد وكنائس القدس العتيقة الممنوعة عليه ورفاقه
نعود إلى بطلة قصتنا لمياء، التي شاءت الأقدار يوما أن تفقد طائرتها الورقية المسقطة في داخل المنطقة الحدودية العازلة الملغمة.

لكن شغبها الطفولي وبراءتها دفعاها للسير عبر مسالك الألغام إصرارا على استرجاع طائرتها تحت صراخات متوسلة من أبناء قريتها ومن المجند الإسرائيلي الشاب المكلف بمراقبة الحدود.

يوسف،مجند شاب من الطائفة الدرزية ذاتها، المنتمي قصرا إلى الدولة العبرية حيث التجنيد الإجباري لا يعترف بغير الانتماء الحدودي للدولة معيارا فالآخرون (الدروز اللبنانيون) بالنسبة لرئيسه في العمل مجرد أعداء وطوال يومياته الرتيبة لا يجد يوسف ما يفعله غير تتبع لمياء،وهي تلاعب الأطفال، أو متابعة أحاديث النساء الملثمات اللائي يصطففن من الجهتين لتبادل الأخبار عبر مكبرات الصوت مهما كانت درجة حميميتها أو خصوصيتها.

فالجنود الأعداء أصبحوا مع مرور الوقت على علم بكل المسائل الشخصية المتعلقة بالعائلات وكأنهم أفراد منتمين إليها، وبين يوسف ولمياء ونظرات العشق التي يتبادلانها،كان قرار الطائفة فيصلا وسدا مانعا أمام كل إمكانيات حلم تحقق "معجزة" ما تسمح لهما بتخصيب بذرة الحب النامية في قلبيهما.

وعلى الحدود لا يسمح بمرور غير نعوش الموتى أو العرائس في رمزية واضحة على انتقال الفتاة من واقع قريتها المألوف إلى المجهول بعيدا عن كنف عائلتها ،قاطعة المسافة الفاصلة بين الضفتين بلباسها الأبيض (استعارة لون الكفن)، وكأنها تقتلع من جذورها لتبدأ حياة جديدة بمسؤوليات زوجية ضاغطة، وهي التي كانت إلى وقت قريب تلعب مع الأطفال بطيارة ورق.

مشهد العبور هذا شكل واحدا من المشاهد الأكثر تأثيرا في الشريط حيث صور بعناية فائقة تدفع بالمتفرج إلى التماهي مع شخصية لمياء محسا بالوحدة القاتلة المصاحبة لها في مسار انتقالها بين مرحلتي الطفلة والزوجة.

ولأن الزواج مبني على الحب والتفاهم من طرفيه، فقد كان الفشل المآل الطبيعي لعلاقة لمياء بابن عمها، بل كان لقاؤهما صادما كما يلخصه الحوار التالي : ـ العريس : كان كل أملي مساعدتك، لست من أجبرك على الحضور إلى هنا
ـ لمياء : لا أحبك ـ العريس: أنا أيضا لا أحبك
ـ لمياء : أحب شخصا آخر ـ العريس: عظيم
ـ لمياء : لا أحبك ـ العريس: فهمت
لا داعي لتكرار ذلك، سوف أساعدك على العودة إلى بلدتك الأصلية
ـ لمياء : تساعدني؟ كيف ذلك؟ أتعتقدني لعبة في أيديكم تتقاذفونها كما تشاؤون؟ أنا لست لعبة وسأبقى هنا، لم تكن لمياء تقدر خطورة ما تفكر فيه، لكنها مصرة على البقاء في الجانب الإسرائيلي للحدود علها تقترب أكثر من حبيبها المجند يوسف رغم كل ما يمكن لذلك التصرف أن يثيره من مشاكل تصل حد الاتهام بالعمالة وهناك في المنطقة العسكرية مارست لمياء فتنتها محاولة استثارة المجند الإسرائيلي المتابع لها بالمنظار باستمرار.

لقد بدأت الفتاة اليافعة مرحلة اكتشاف جسدها الذي كان دوما عورة ومحرما من طابوهات التربية المحافظة للمجتمع الدرزي لكن علاقتها بيوسف بدت مستحيلة النجاح لأن الوضع المتوتر والحقائق السياسية على الأرض تتجاوز أحلامهما ورغباتهما البريئة، مما اضطر لمياء للعودة الى قريتها تحت نظر وحراسة يوسف، الذي تجرأ على ترك مركز المراقبة ومصاحبتها،في صمت معبر تداخلت فيه مشاعرهما الدفينة وتواصلت دون حاجة لكلام أو كثير تعبير غير لمسة يد حركت فيهما الرغبة في التحدي والإصرار مهما كلف الثمن.

القدر الساخر واللاعقلانية المسيطرة على المنطقة تأكدت بالملموس في تصوير المخرجة لمشاهد تضج بالسخرية السوداء حين تسلل جنود إسرائيليون إلى قرية مبروكة،في جنح الليل، راسمين حدودا جديدة بأسلاك شائكة عزلت سكانا جددا عن التواصل مع جيرانهم الأقربين، فكان حوار النساء معبرا صادما عما يعانيه السكان من عدم استقرار: ٧ المرأة صارخة من وراء الأسلاك الشائكة: جميلة، جميلة اقتربي، سوف أساعدك تحاول نزع الأسلاك لكنها تتألم جرحا ـ البنت الصغيرة لأمها جميلة: أأصبحنا الآن تابعين لإسرائيل (تحرك الأم رأسها إيجابا) ـ المرأة (لا تزال تصرخ): جميلة، جميلة لقد احتلوكم.

أليست هذه قمة العبثية التي تجعل المرء نائما في سريره تابعا لدولة ما ليستيقظ في اليوم الموالي مواطنا بجنسية المحتل؟ أيمكن في ظل مثل تلك الظروف الإيمان بالحب سبيلا لتحقيق التحرر من جهة والتفاهم مع الآخر من جهة أخرى؟ الفيلم في نهايته رسالة بالإيجاب حين استطاعت لمياء، ولو في أحلامها وتهيؤاتها، التسلل إلى غرفة المراقبة وتعرية الحبيب يوسف من بزته العسكرية الإسرائيلية التي تخنق لديه كل إمكانيات العودة إلى جذوره، وتقف عائقا يحول بينه وبين أهله الحقيقيين أعداء الكيان الذي يحمل جنسيته ويلبس لباسه العسكري ،ولو من دون كثير اقتناع كما هو ممثل في حالة زميله المتفلسف زياد ،المجند الكهل الغريب الأطوار.

الشريط لمسة شاعرية واقتراب إنساني من هموم وتطلعات بعض من الفئات المنسية في الصراع العربي الإسرائيلي بعيدا عن آليات "البروباغندا" السياسية واحتفاء واضح بالنساء ودورهن في زمني المواجهة والمهادنة أيضا هن اللائي تم تجاهلهن دوما في معظم الأعمال المواكبة للأحداث الشرق أوسطية.

وبين إخراج حساس وأداء تمثيلي سلس وموسيقى تصويرية ممزوجة بغناء نسائي أخاذ، قدم الشريط لوحة فسيفسائية وحالمة تستحق التوقف عندها في انتظار القادم من إنتاجات رندة الشهال التي حققت أولى أفلامها الوثائقية "خطوة خطوة" عام 1979، ثم "لبنان أيام زمان 1980"، "شاشات الرمال" الفيلم الروائي الأول سنة 1991 فالوثائقي "حروبنا المتهورة" قبل العودة إلى الروائي مجددا مع "متحضرات" 1998 وكلها أفلام عن الحرب الأهلية اللبنانية وتبعاتها.




تابعونا على فيسبوك