قد تجد نسوة يرتدين اللباس الأبيض حدادا على أزواجهن طيلة السنة، ولا يتوقفن عن ذرف الدموع والنواح لاستدرار عطفك وشفقتك حتى تجود عليهن ببضعة دراهم، ثم تستكمل طريقك ليستوقفك زميل لهن في "المهنة" مستعرضا أحد أطرافه المعطوبة ومستنجدا بجيبك طامعا بما قد تمنحه من مال، ثم يستوقفك آخر وآخر في كل زقاق وشارع خاصة بالمدن الكبرى التي أصبح فيها التسول ظاهرة مألوفة تختلف أشكالها وتتعدد أساليبها لكن هدفها واحد الوصول إلى جيبك بأية طريقة.
يرتدون أسمالا بالية، يجلسون على الأرصفة أو يجوبون الشوارع ويطلبون المال من المارة بحجة أنهم يعانون من مرض أو إعاقة وأحيانا يستخدمون حيلا لجذب اهتمام الناس والتحايل عليهم عاطفيا، عن طريق الاستعانة بالرضع والأطفال واستغلالهم في عملية التسول أو اللجوء إلى التظاهر بالعجز وعدم القدرة عن العمل بسبب الإصابة بأحد الأمراض الخطيرة من أجل جمع أكبر قدر من المال، هي مشاهد أصبحت تتكرر كل يوم وتثير إزعاج المواطنين بسبب التصرفات الصادرة عن بعض المتسولين، كالإصرار والإلحاح والتطفل وقد يصل الأمر إلى الاستفزاز والتحرش.
تصاعد حدة التسول ودعوات لمقاطعة محترفيها
في الآونة الأخيرة، المتسمة بارتفاع الأسعار والغلاء تصاعدت حدة التسول حيث لم تعد تخلو الشوارع والأسواق من جموع المتسولين من مختلف الأعمار والأجناس وانضاف إليهم مهاجرون من إفريقيا جنوب الصحراء، وأصبحت هذه الآفة مستشرية في المجتمع ومن أكثر المشاكل الاجتماعية التي يواجهها، وعجزت معظم التدابير المتخذة عن محاصرتها واحتوائها مما دفع نشطاء على مواقع التوصل الاجتماعي لإطلاق حملة رقمية للتعبير عن استنكارهم تحويل التسول من قبل منعدمي الضمير والكرامة إلى "مهنة مربحة"، وطالبوا بضرورة مقاطعة محترفي التسول وعدم التصدق عليهم وتخصيص الصدقات لمن يستحقها من الفقراء المتعففين، كما دعوا السلطات إلى تكثيف حملاتها ومراقبتها الأمنية لمكافحة الظاهرة الذميمة وقطع الطريق على المحتالين والنصابين الذين يستغلون عطف الناس وكرمهم من أجل تحقيق الأرباح.
التسول أصل تجاري يدر الأموال والقوانين عاجزة عن التصدي له
وفي هذا الصدد، أشار عبد العالي الصافي، محام بهيئة القنيطرة، إلى أن ظاهرة التسول تستمر في الانتشار والتمدد بالبلاد، خصوصا في المدن التي تعرف تنافسا بين المتسولين حول الأماكن الأكثر رواجا، والتي أصبحت بحق بالنسبة للكثير منهم أصولا تجارية تدر عليهم أموالا لا يجنيها العامل البسيط في الحقل أو في البناء أو في المصانع. وقال الصافي، في تصريح لـ"الصحراء المغربية"، إن المشرع عاقب على جريمة التسول في الفصل 326 كل من كانت لديه وسائل العيش أو كان بالإمكان الحصول عليها بالعمل أو بأية وسيلة مشروعة لكنه اعتاد ممارسة التسول بالحبس من شهر واحد إلى ستة أشهر، ليأتي في الفصل 327 و يشدد العقوبة حيث رفعها إلى الحبس من ثلاثة أشهر إلى سنة في حق كل متسول ولو كان ذا عاهة أو معدوما لكنه استعمل وسائل التهديد أو التظاهر بالمرض أو تعود اصطحاب طفل من غير فروعه أو التسول جماعة.
وتابع الصافي أنه في الوقت الذي لم ينظم المشرع الحدود الفاصلة بين التسول والتشرد لكنه عاقب عليهما بالعقوبة نفسها في الفصل 330 إلا أن التعديل والتتميم الذي جاء به القانون 24.03 شدد العقوبة في الفصل 330 وعاقب بالحبس من 6 أشهر إلى سنتين كل من له سلطة على طفل إذا سلمه بمقابل أو بدون مقابل إلى متشرد أو متسول، وأضاف المشرع جريمة خاصة تتعلق بفعل العنف دون تحديد طبيعته والتي يمارسها المتشرد وحدد لها عقوبة تتراوح بين سنة و5 سنوات.
وفي هذا السياق، أكد المحامي في إفادته لـ"الصحراء المغربية" أن المواد المتعلقة بتجريم التسول تحتاج التنقيح وتناولها بالجدية المطلوبة، لأن التسول كان في الماضي عبارة عن ممارسات معزولة ومتحكم فيها إلا أنه اليوم، وبشهادة الأبحاث العلمية السوسيولوجية والاقتصادية وغيرها، انتقل إلى ظاهرة تضر بالمجتمع وببنيانه وتضرب الاقتصاد في مناحي عدة ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تصبح بديلا للحماية الاجتماعية التي هي اختصاص حصري للدولة، ولا يمكن أن تحل شيفرة التوزيع غير العادل للثروة وما يصاحبه من مشاكل سوسيو اقتصادية كالعطالة وضرب القدرة الشرائية للمواطن البسيط والفقر والهشاشة التي تعيشها فئات واسعة من المجتمع.
وأوضح المتحدث ذاته أن المقاربة القانونية مهمة جدا لمواجهة هذه الظاهرة وأن القانون الحالي يساعد على ذلك، كما يمكن الاستعانة بقانون الاتجار بالبشر متى توفرت موجباته تطبيقه في حالة الشبكات المنظمة التي قد تستغل الهشاشة التي تعيشها بعض الفئات، وتحديدا الأطفال والمسنين والنساء والأشخاص ذوي العزائم، وشدد على أنه بدون المقاربتين الاجتماعية و الاقتصادية لا يمكن القضاء على هذه الظاهرة التي استفحلت نتيجة عدة عوامل موضوعية وذاتية منها تداعيات الحجر الصحي على الاقتصادين الوطني والدولي وكذلك التضخم والمديونية، الآفتين اللتين يعتبرهما البنك الدولي كفيلتين لوحدهما بإفقار الطبقة المتوسطة وإسقاطها تحت حزام الفقر وتعقيد أكثر لوضعية الفقراء خصوصا في الدول النامية التي لا توفر أية حماية اجتماعية لمواطنيها.
الظاهرة مستشرية بالمجتمع المغربي لعوامل متعددة من جهته، يرى كريم تباع، باحث في مجال سوسيولوجيا التنمية المحلية، أن التسول ظاهرة عالمية تعيشها جميع المجتمعات، وبما أن المغرب ينتمي إلى دول العالم الثالث فهي حاضرة بقوة، حيث تشير بعض الإحصائيات أن عدد المتسولين بالبلاد وصل إلى أكثر من 195 ألف متسول، ليحتل بذلك صدارة الدول العربية متبوعا بمصر والجزائر، واعتبر أن العديد من الظواهر التي نشاهدها اليوم غالبيتها تعود إلى السياق الكولونيالي.
وقال تباع في حديثه لـ"الصحراء المغربية" إن العوامل الاجتماعية والاقتصادية غالبا ما تكون سببا في زيادة انتشار هذه الظاهرة مقارنة بالعوامل الأخرى، موضحا أن الظرفية التي يعيشها المغرب حاليا بسبب السياق الصحي الذي مر به من وباء كورونا جعل الظاهرة تعرف نوعا من التنوع والتوسع، ويمكن القول إن الأسباب المتعلقة بالبطالة، الفقر، العوز، الوصم، غلاء المعيشة، التشرد، تكاليف العلاج المرتفعة، الصحة، الإدمان على المخدرات، الإعاقة الجسدية والعقلية، الأسرة، السكن، جودة الحياة... تكون سببا في حدوث التسول.
تابع المتحدث ذاته أن هناك تفسيرات ثقافية ونفسية لظاهرة التسول، موردا في هذا الصدد أن الجانب الثقافي حاضر بقوة في تفشي الظاهرة، ويمكن أن يكون "مستقلا" أي ليس له ارتباط بالعامل الاجتماعي والاقتصادي دائما، بالعودة إلى السياق الحالي ونزولا إلى الشارع فإن الغالبية تتسول بطرق متشابهة من حيث النوع (الجنس)، الفئة العمرية، الطبقة الاجتماعية، وكل عنصر له "رأسمال تسولي" مختلف عن الآخر من حيث نوعية الطلب والوسيلة التي يعتمدها في التوسل، وأيضا العنصر المرتبط بالأماكن، التسول أمام المحلات التجارية، المقابر، المساجد، الكنائس، المحطات الطرقية وغيرها من العناصر التي تدخل في السلوكيات الاجتماعية والثقافية اليومية للمتسول، دون أن نغفل، يقول تباع، العامل المرتبط بالتنشئة الاجتماعية الذي يلعب كذلك دورا رئيسيا في إعادة إنتاج هذه الظاهرة بصورة وبكيفية مماثلة.
وأضاف تباع أن الجانب الديني مهم في استفحال الظاهرة وخاصة في الإسلام الذي يدعو إلى "الرحمة"، كما أن الظاهرة تعرف ارتفاعا خلال فصل الشتاء والأعياد والمناسبات والأحداث، حيث يزداد الطلب للحصول على المساعدات المادية والإنسانية، مضيفا أن العامل النفسي كذلك مهم خصوصا مع الفئات التي تعاني من أمراض عقلية والتي هي بمثابة "قنابل موقوتة" في الشارع، إلى جانب الفئات المتعودة على التسول، ثم من يعانون من الإحباط واليأس والاكتئاب والقلق والخجل والعزلة الاجتماعية والتعرض للتمييز واللامبالاة الاجتماعية... وما إلى ذلك.
فشل التدابير المتخذة لمكافحة الفقر والبطالة أدى إلى زيادة حدة التسول
وأبرز المصدر ذاته أن ظاهرة التسول في المغرب ترتبط بشكل كبير بالفقر والبطالة، حيث يعتبر التسول من الوسائل التي يلجأ إليها الأشخاص الذين يعانون من الفقر والحاجة من أجل تأمين لقمة العيش، خاصة الأشخاص الذين يمتهنون ما يطلق عليه بـ"البريكولاج المهني" أو "طالب معاشو" وكذا في القطاع غير المهيكل، واعتبر أن مكافحة هذين العاملين صعب لما يتطلبه ذلك من مجهودات أكثر من الفاعلين ومدى نوعية السياسات العمومية والبرامج الاجتماعية المبلورة، لأن جميع السياسات التي تم تنزيلها أبانت غالبيتها عن فشلها ولم يتم تفعيلها بالشكل المطلوب، فضلا عن تهميش الباحثين والخبراء والعاملين في الميدان الاجتماعي والنفسي والصحي، وشبه غياب مؤسسات الرعاية الاجتماعية وقلة مؤسسات الإيواء وباقي التنظيمات الأخرى.
انتقال التسول إلى العالم الرقمي ومحدودية دور المجتمع المدني ولتفسير التغيرات التي طرأت على ظاهرة التسول في المغرب خلال السنوات الأخيرة، عزا تباع الأسباب إلى ظهور العولمة والحداثة التي غيرت طريقة التسول وحملت معها نمط جديد يمكن تسميته بـ "التسول الرقمي"، دون إغفال السياق الصحي المتعلق بوباء كورونا الذي أحدث طفرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي للبلدان بما فيها المغرب ما نتج عنه من ركود اقتصادي كبير وهو ما أدخل العديد من الأسر إلى المعاناة مع الواقع المعقد، بالإضافة إلى التغيرات التي يشهدها العالم بسبب الحروب والتغيرات المناخية والاقتصادية والسياسية التي تؤثر على العالم ما يؤشر إلى ازدياد تفاقم ظاهرة التسول.
وتحدث المصدر ذاته عن انتقال ظاهرة التسول من العالم الفيزيقي إلى العالم الرقمي الجديد عبر الوسيط "الآلة"، التي أصبح بفعلها صوت المتسول يصل إلى الجميع ليس فقط داخل المغرب بل حتى إلى الجالية المغربية التي تتفاعل بشكل كبير مع الحالات وكذلك القدر المالي الكبير مقارنة بالمغرب، وهذا شيء عادي نظرا للدخل الفردي هناك، موضحا أن التسول الإلكتروني يختلف عن التسول الواقعي، حيث أن الأول يكون أكثر قابلية لأن المشاعر والأحاسيس تكون قوية مقارنة مع الواقع الذي يكون فيه المتسول أكثر غرابة للناس ويتخفون منه.
وفي هذا السياق، أشار تباع إلى بروز شخصيات تدعي بأنها تقوم بما يسمى بـ "الإحسان العمومي"، حيث أصبحنا أمام ظاهرة جديدة والتي غالبا ما تتميز بالنصب والخداع نظرا لعدم وضوحها بشكل جيد.
واعتبر المتحدث ذاته أن المجتمع المدني له دور فعال في إحداث عملية تغييرية تستجيب لمتطلبات واحتياجات الإنسان بما فيها خلق دعم اقتصادي واجتماعي ونفسي، مثل توفير فرص العمل ضمن التعاونيات أو المشاريع المدرة للدخل، والتنسيق مع باقي المؤسسات التي تعنى بالحالات المعروضة من أجل تمكينها من التدريب والتعليم بغية تقليل لجوئها إلى التسول، لكن، يقول تباع، يبقى كل هذا دورا نسبيا مقارنة بحجم الظاهرة بالنظر إلى مدى فعالية الدور الذي تقوم به مؤسسة معينة لأننا في الغالب نرى فعالية المجتمع المدني لا تكون في ذلك المقام الجيد نظرا لمحدودية كفاءتها الميدانية ثم العشوائية على مستوى التسيير والتدبير، وعدم الإلمام بالمشكل جيدا، دون أن ننسى ثقافة "القفة الرمضانية" وانتشارها حيث ينبغي أن يكون التدخل مستداما وليس لحظيا. أسماء إزواون