أصدرت مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث، بمناسبة اليوم الوطني للمقاومة، الذي يتزامن مع ذكرى استشهاد محمد الزرقطوني، طبعة جديدة ومنقحة من كتاب "الشهيدة ثريا الشاوي أول طيارة بالمغرب الكبير"، لمؤلفه الأستاذ عبد الحق المريني، مدير التشريفات الملكية والأو
يسجل الكتاب، الصادر عن مطبعة النجاح الجديدة ـ الدارالبيضاء، ومن إخراج محمد مرغاطة، سيرة حياة فتاة مغربية طموحة، مفعمة بالوطنية، رائدة في مجال قيادة الطيران، في وقت لم يمض على استقلال البلاد سوى بضعة أسابيع.
والكتاب عبارة عن سجل لحياة الشهيدة، من ميلادها، إلى طفولتها، إلى دراستها المهنية، إلى حياتها العملية، ثم استشهادها على يد أحد المسخرين. واختار المؤلف سلسلة من الشهادات في حق الراحلة، ومجموعة من الوثائق التاريخية، والصور التي تسجل فترات عدة من حياتها إلى وفاتها.
في تقديمه للمؤلف، يقول الأستاذ المريني: "هذه صفحات من حياة فقيدة الطيران الوطني ،المرحومة ثريا الشاوي (1937 ـ 1956)، صفحات من تضحية في سبيل الوطن، صفحات من نهضة المرأة المغربية وانتصاراتها، خلدتها الفقيدة، فيحق إخراجها إلى الوجود".
ويضيف أن "ثريا الشاوي كافحت، وناضلت، ودافعت عن حقوق وطنها المغصوبة، وفتحت في وجه الفتاة المغربية بابا من أبواب تطورها وتقدمها، أرادت أن ترسم لها أروع الأمثلة في التضحية والبسالة والإقدام، فطارت تحلق في سماء المغرب، أحبت أن تكون ممن انتشل الفتاة من كبوتها، وأنقذها من وهدتها، فمثلت في خشبة المسرح المغربي، وكتبت وخطبت في حفلات عيد العرش، وواصلت الخطى، حتى صوبت نحوها يد أثيمة رصاصة في يوم من الأيام، (فاتح مارس 1956)، التي عملت من أجلها، وناضلت كأخواتها في سبيل تحقيقها، أيام استعادة الحرية والعزة والكرامة. لقد جعلت منها تلك الرصاصة شهيدة من شهداء الوطن.
ويختتم المريني تقديمه للطبعة الثانية من الكتاب قائلا: "جاءت هده الصفحات لتضم أعمال ثريا الخالدة، وتحرس وثائقها من أيدي العفاف، وتصونها بين ثناياها من الاندثار والضياع، في طبعة جديدة، من طبع ونشر مؤسسة محمد الزرقطوني للثقافة والأبحاث".
وعن سر عدم ذكر اسمه في الطبعة الأولى للكتاب، الذي صدر أياما بعد رحيل ثريا الشاوي، يقول المريني: "لم تمر بضعة أيام على رحيل ثريا، حتى كاتبني والدها، عبد الواحد الشاوي، طالبا مني أن أساعده على إعداد كتاب حول فلذة كبده، فاستجبت له، وشرعنا في التعاون معا لإخراج هذا الكتاب إلى الوجود، إذ كنت أنتقل بين الرباط والدارالبيضاء مدة سنة، إلى أن اكتمل المشروع تحت عنوان: ثريا الشاوي أول طيارة بالمغرب العربي".
ويوضح المريني "خلال عملية الطبع وقع بيننا خلاف، بسبب تشبث الشاوي بنشر صورة الفقيدة ضمن الكتاب، اعتبرت أنها غير مناسبة، لأنها بمثابة إعلان تجاري لمنتوج معين، وبالتالي عارضت نشرها، بينما تشبث هو برأيه، وحتى لا أعرقل ذلك المشروع التوثيقي، لم يكن أمامي من حل آخر سوى أن أقوم بسحب اسمي من الكتاب، الذي ظهر باسم إحدى صديقات ثريا. كانت هذه أول تجربة لي في ميدان الإعداد والتأليف والطباعة والنشر، شهدت فيها المحن والشدائد، التي يلاقيها كل مقبل على هذا الميدان".
مما جاء في مقال كتبه الكاتب عبد الكريم غلاب، وجهه إليها، ونشر في صحيفة "رسالة المغرب"، مهنئا ثريا الشاوي بمناسبة فوزها في قيادة الطائرة: "قامت الفتاة المغربية (هذا الأسبوع) ، بغزو علمي جديد، له دلالة علمية خطيرة حينما أقدمت الآنسة ثريا الشاوي على تعلم الطيران، فكانت أول فتاة مغربية تقود الطائرة، ومن أوائل المغاربة الذين أقدموا على تعلم هذا الفن، سيكون له مستقبل عظيم في تقدم الحضارة الإنسانية.. كانت جريئة في تفكيرها، لأنها خرجت بالفتاة المغربية من طور النقاب والقفطان، إلى طور قيادة الطائرة، دون تردد ولا تلكؤ. وكانت جريئة في تنفيذ فكرتها، خرجت بها إلى العالم الواقع، فلم يفطن المغاربة إلا وإحدى فتياتهم تتقدم إلى الميدان، وتقود الطائرة لتحلق بها فوق القصر الملكي، فتمطره بباقة من الأزهار، عنوانا على ما تكنه لبلادها، ممثلة في رمزها الأسمى، من ود وإخلاص واستعداد، لتقديم مواهبها في سبيل بلادها وأمتها".
ويضيف: "أهم ما يدل عليه هذا الحدث، هو الاستعداد الكامن في الفتاة المغربية، للمساهمة في النشاط الحيوي للبلاد. ليس ينقصنا غير رفع القيود التي تحد من نشاطها، وفي مقدمة هذه القيود الجهل. عن الفتاة المغربية إذا ما أعدت إعدادا صالحا، وفتحت أمامها أبواب المعرفة، ووجهت التوجيه الصحيح، واكتشفت فيها نواحي النشاط، واستغلت قدرتها على العمل تستطيع أن تصنع المعجزات".
ازدادت ثريا الشاوي في 14 دجنبر 1937 بحومة القلقليين بمدينة فاس. وامتازت أيام طفولتها بأوصاف من الغرائب في جميع وسائل اللهو والتسلية، والهيام المفرط بالألعاب الميكانيكية الصغيرة، مثل الطائرات.
في سنة 1943 أحضر لها والدها عبد الواحد الشاوي، أحد أساتذة القرويين، هو إدريس بنسودة، ليلقنها يوميا دروسا في الفقه، والنحو، والتاريخ، والإنشاء، والمحادثة، لتنوير أفكارها، وتحسن من كل فن طرفا.
في نهاية 1944، انتقلت الطفلة إلى مدرسة النجاح، برحبة القيس، وهي مؤسسة حرة لحزب الاستقلال، كان يديرها الهاشمي الفيلالي، تحت رئاسة أحمد مكوار، فحصلت على الشهادة الابتدائية سنة 1946، السنة التي كانت تدرس خلالها الرقن على الآلة الكاتبة باللغة العربية، وفي أوائل 1949 بعثها والدها لاستكمال دراستها في الاختزال بتونس، حيث مكثت ستة أشهر، حصلت بعدها على شهادة التدريس في الاختزال، وفي غشت من السنة ذاتها توظفت ككاتبة في الوكالة المغربية للأنباء والإشهار والسفر، وبذلك أصبحت ثريا المغربية الأولى الحاصلة على الشهادة في الاختزال.
في نوفمبر من 1949 نظمت الوكالة مباراة أدبية، بمناسبة عيد العرش، وعزمت ثريا أن تشارك فيها، وطلبت من والدها أن ينفذ أي طلب تتقدم به إليه، إن أحرزت الجائزة الأولى في المباراة، فوعدها وعدا صادقا، ولما كانت الجائزة الأولى من نصيبها، كان الطلب هو الانخراط في إحدى مدارس الطيران، وما كان على أبيها تحقيق أمنيتها، ولو أن الأمر كان صعبا من كل النواحي، خصوصا المادية منها.
كانت المدرسة التي درست فيها في تيط مليل، قرب الدارالبيضاء، تسمى "الأجنحة الشريفة". وحتى يتمكن والدها من أداء المصاريف، التي كانت 4 آلاف فرنك في الساعة، إضافة إلى 1500 فرنك للنقل، اضطر إلى تلقين دروسا في العربية، بطلب من بعض التجار الفرنسيين.
بعد 4 أشهر من التدريب أحرزت الطالبة شهادة الكفاءة، وبعدها نالت شهادة الإجازة في الطيران، وكان أول عمل قامت به بعد تخرجها واجتياز الامتحان بنجاح، إلقاء باقة من الزهور من فوق القصر الملكي بالرباط، اعترافا بجميل جلالة الملك محمد الخامس والقصر، والأميرة للا عائشة، زعيمة النهضة النسوية المغربية.
أصيبت ثريا بمرض ألزمها الفراش لمدة شهرين، والسبب أن نافذة إحدى الطائرات التي كانت تقودها كانت مفتوحة، دون علمها، وكان التيار الهوائي شديدا، ما أدى إلى إصابتها بداء خطير في رئتيها. وقامت الفقيدة برحلات عدة، بين المغرب والخارج، أكدت خلالها أهليتها وكفاءتها في قيادة الطيران.
وعشية يوم فاتح مارس 1956 أتاها القاتل من الوراء، فنفذ فعلته الغادرة، لتكون ثريا شهيدة الوطن.