أقدم ميلان كونديرا على منح هدية عظيمة للأدب، ففي دراسة مخصصة لفن الرواية، وهي جوهرة ذكاء وأسلوب، مزق الكاتب الفرنسي من أصل تشيكي الستار الذي يحجب العالم والأدب وبذلك يقودنا إلى دولة صديقة، على أراضي كل من رابلي وسرفانتس وفلوبير وستندال، برفقة كل من كارسيا
لكن ماهو الستار الذي سعى كونديرا إلى تمزيقه؟ إنه ستار التأويلات الجاهزة والقبلية، وهو ستار مرعب نسج من حقائق مزيفة، يوسخ الروح مثل الكثير من الغبار، ويشتغل كفكر سحري.
المأساة، مع هذه الستارات، أنها تنتهي بسقوطها في المشهد كأقنعة لم نعد نراها أبدا ولم نعد نهتم بها البتة وكما يقول كونديرا، تلزمنا "شجاعة سرفانتيسية"كي نجرؤ على تجزيئها.
فالرهان ليس محددا بدقة، إذ الأمر يتعلق فقط بتعريف الرواية, فكونديرا له طموح الكبار لذلك لا يقنع بتكرار ما كتب فهو يطمح ـ مثل كل كاتب أصيل ـ إلى شيء مختلف بطريقة عميقة.
فبتحمس فرح، يؤكد على دور التوليف الذي لا يمكن اختزاله في المعرفة الجيدة بالتقنية ويؤكد على عبودية "القصة": أي على إلزامية التحول في الشكل.
"في فن الرواية يطرح منذ البداية أن الاكتشافات الوجودية وتحول الشكل متلازمان"
لكن الجوهري يكمن في دفاعه الجريء والشفاف، لصالح "أدب عالمي".
إن الفكرة ليست جديدة، فقد سبق لغوته أن تغنى ففي نص تنبئي وآفل، بإيجابيات ظهور هذا الأدب العالمي Weltliteratin : "فالأدب الوطني لم يعد يمثل شيئا كبيرا اليوم، فقد سبق للشاعر الألماني أن سجل ذلك منذ مائتي سنة، لقد دخلنا عصر الأدب العالمي
ومن الواجب على كل واحد منا أن يسرع وتيرة هذا التطور".
لكن الناس خانوا وصية غوته إذا عدنا إلى الشعلة الغوتية، فالمنشق التشيكي يبرهن على أنه لا نستطيع منذ الآن أن نعجب بجدة رواية ما إلا في ما يسميه "بالسياق الكبير"، بهذه الطريقة يهاجم إقليمية الفكر الذي لا يقيم الأدب إلا من خلال "وطنيته".
كما لو أن بروست كان فرنسيا وجويس إيرلنديا كما لو أن الصدى الاجتماعي داخل أمة له أهمية أكثر من أهمية عمل أدبي في تاريخ الأدب.
هذا الانغلاق الوطني لا يضر بفن الرواية فقط ـ في عصر أوروبا ـ بل هو غير ملائم للمرحلة بتاتا.فضد "أخلاقية الأرشيف"التي تعطي الأولوية في اللحظة الراهنة وتوحي بالمحافظة على أعمال الكاتب كلها، بدءا من رسائله ووصولا إلى مسوداته لكي نحكم على عمله، يقترح كونديرا "أخلاقية الجوهري والمهم"فالقراءة طويلة والحياة قصيرة".
لقد كتب هذه الجملة قبل أن يشرح رفضه لإعطاء أي حوار "سواء أكان مع صحافي أم قارئ".
فما يبتدعه المؤلف ليس ملكا لأمه ولا لأبيه، ولا لوطنه ولا للإنسانية، إنه ملك له وحده، يمكن أن ينشره عندما يريد وإن أراد يمكن أن يغيره ويصححه، أن يتوسع فيه وأن يقلصه، أن يرمي به في حوض المرحاض ويصب عليه الماء من دون أن يكون ملزما بشرح ذلك لأي كان، هذا صحيح، هذا مؤسف لكنه صحيح.
لا يحلل كونديرا بطريقة الأستاذ، ولا بطريقة المحقق الذي يحافظ على المسافة الباردة، ولا بطريقة الوقاحة المذهبية للخبير : إنه يحلل بطريقة تدخل عليه السعادة وتجعله يطير من الفرح ويشتعل، يضيء نصه بعلامات التعجب والأقواس، نجد لديه القدرة على الإدهاش ثابتة وهو الذي عرف بصورة كاملة كيف يدمج التفكير في رواياته.
وبما أنه لا توجد فكرة أقوى من السيرة الذاتية، فكونديرا يتحدث عن قراءاته، وعن بلده المسروق وعن مدينته "بوهيميا".
إن هذه الدراسة هي كتابة مقدسة، مضاءة بذرات من تبر، فلماذا نكتب روايات؟ لكي "نذهب في روح الأشياء"هكذا أجاب فلوبير، ويعقب كونديرا "لكي نفلت من سلطة النسيان".
فالرواية هي "إحدى القصور الصامدة لما لا ينسى"يا له من تعريف جميل إنه يرسم ملامح مشروع كونديرا : كتابة نظرية لكثافة الحياة وفي الوقت نفسه نظرية للفن الروائي
يصل إليها بعذوبة عجيبة ويأتي لنا بالدليل على أن الرواية والحياة ليستا في العمق إلا الشيء ذاته.