قديما قيل، الكتاب خير أنيس، ومرد ذلك إلى القيمة المعنوية والفكرية للكتاب في تجزية الوقت، والهدر الجميل له، إلى درجة أن القارئ الولهان بما يسطره القلم، لا يشعر حتى يجد نفسه محاطا بالعشرات من الكتب، يحتفظ لكل واحد منها، بأسرار وذكريات جميلة، وعلاقات مأثورة،
وهذا ما يمكن أن نعتبره قمة الوفاء للأفكار والكلمات والقيم والنصائح التي تتضمنها الكتب، بل إن المدمن على القراءة، لا يكاد يمر أسبوع بدون أن يخطفه فضوله للاطلاع في أقرب مكتبة، عن جديد الإصدارات وآخر ما جادت به قريحة الكتاب، ويمكن أن يتخلى عن إحدى وجباته الرئيسية أو إحدى الضروريات الحياتية من أجل اقتناء كتاب يثري به خزانته، لكن المؤسف له، أن هذا المشهد الذي سردنا لقطاته، أصبح ينتمي إلى الماضي، إلى فترة زمنية لم تكن فيها وسائل الإعلام السمعية البصرية هي الطاغية ولم تكن فيه أزرار الحاسوب هي المتحكمة في غذائنا الفكري، إلى درجة أصبح معها الكتاب يشعرون وكأنهم مصابون بمس قليلون هم من يتجاوبون مع إبداعاتهم، وكتبهم تتقاذفها الأيادي لكثرة التصفح بدون أن تلقى الحضن الآمن لانتشالها من أشعة الشمس التي أفقدتها رونقها وجعلتها شاحبة، وزخات المطر التي أفقدتها زينتها وطراوتها.
كان هذا استهلال لموضوع ورقة هذا الأسبوع، التي جمعنا كلماتها وأفكارها التي تقارع بعضها البعض في فعاليات المعرض الدولي للنشر والكتاب الذي أسدل ستارة دورته أخيرا، حيث طرحنا موضوع القراءة والاهتمام بالكتاب على ثلة من الشباب، لمعرفة وجهات نظرهم بخصوص هذا التقليد الجميل الذي هجرناه، وأسقطناه من حساباتنا، فكانت جل الأجوبة، تسير في اتجاه أن المشكل لا يكمن في ما عرفه العالم من تطور معلوماتي، إنما هناك إجماع على أن عدم التتلمذ على القراءة وعدم ترسيخها كعادة طبيعية في حياتنا منذ الصغر، أسباب ساهمت بشكل كبير في ما يعيشه الكتاب من عزلة.
وهذا ما أكده أحمد ربيع، بقوله "إن من لم يتعود على قراءة الكتب المجردة من المستحيل عليه قراءة الكتب مبتوتة في الإنترنيت"، فمسألة القراءة، حسب محدثنا، سلوك ينمو مع نمو الإنسان، وفاقد ثقافة القراءة لا يمكن أن ننتظر منه أبعد من ذلك، ومن جهته أبرز نوفل خزار"أن الرغبة هي نتاج علاقة وجدانية وروحية مع شيء لنا معه حميمية ما، وعدم وجود هذه الرغبة، يعني أن لا شيء يربطنا مع هذا الشيء، وبالتالي فوجوده، كعدمه"، هكذا فسر محدثنا طبيعة العلاقة التي يمكن أن تربط الكتاب مع القارئ، سواء سلبيا أو إيجابيا، وأكد على أن "العلاقة الفكرية تحمل القارئ إلى التكهن بما يمكن أن يأتي به الكتاب من جديد، لإغناء معلومات حول قضية ما، فبمجرد التصفح ـ يقول نوفل خزارـ يستطيع المولوع بالقراءة أن يرسم صورة أولية للكتاب الذي بين يديه، ويقرر بالتالي إن كان سيستسلم لرغبته ويقتني الكتاب رغم كلفته الثقيلة شيئا ما على ميزانيته، أم أنه سيتركه حيث هو في انتظار قارئ آخر له تصور آخر وله رغبة مخالفة".
وعن سر تواجده بالمعرض، أكد لنا نوفل على أنه مولوع بالفكر الصوفي والقراءات الباطنية، ويريد أن يتعرف عن آخر الإصدارات العربية في هذا الخصوص، وفي هذا الجانب أضاف نوفل أن "المشارقة يجتهدون في هذا النوع من المؤلفات، فيما نحن في المغرب نظرا لصعوبة إيجاد المستهلك الولهان، بهذا النوع من الكتب أو غيرها، تبقى وضعية الإصدارات في المغرب محدودة وغير ذات مفعول"، وهذا ما حاول إسماعيل توفيق إرجاعه إلى المناهج التعليمية التائهة بين التجديد والتقليد والتجريب، الشيء الذي جعل مسألة القراءة بالكفايات ليس لها أي مدلول في ثقافتنا العامة.
ومن جهتها أبرزت كريمة بوحجية في سياق حديثها عن المعرض الدولي للكتاب أن قيمته المعنوية بدأت تخبو مع توالي السنوات، وأضافت قائلة، "إن الجهات المسؤولة لم تساهم في خلق إقبال على هذا الغذاء الفكري، بتنظيم حملات تواصلية فاعلة في المؤسسات التعليمية، وتجعل المدينة التي تستقبل المعرض تعيش على إيقاع هذا الحدث الفكري المتميز".
ومن خلال هذه الآراء سنلاحظ كذلك، أن تكريس هذا التقليد في ذواتنا، كرغبة جديدة وغذاء مستجد لابد أن يخلق، موضوعا نحاول أن نفتح به شهية القراءة وتتبع الحدث، إذ، ليس عيبا أن تبتدئ المطالعة بقراءة تفاصيل حادث ما قد يكون إجراميا أو غيره ونتبعه بمعرفة الرأي والرأي المخالف، في ذات الحادث وبعده، حتما سيكون فهمنا مفتوحا للمزيد، وكلما تعودنا على تخصيص وقت مضبوط للقراءة، كلما ساهمنا في اكتساب هذه الثقافة وجعلها معتادة في حياتنا المعاشية، وهذا التوجه يمكن للآباء أن يسيروا على منواله لتربية أبنائهم، ولو بالإرغام على قراءة كتاب لسرد مضامينه فيما بعد
ومع التعود سيكون الأب نجح في خلق رغبة حميمية لابنه مع الكتاب وهذا أقل ما يمكن أن نسلكه لإعادة الاعتبار لخير أنيس في وقت الضيق.