تواطؤ لغة الصحافة الأميركية

الجمعة 13 يناير 2006 - 10:44

أدركت حجم الضغوط الهائلة التي تقع على الصحافيين الأميركيين، وذلك لأول مرة عندما ذهبت منذ بضعة أعوام لتوديع صحفي أميركي زميل كان يعمل مراسلاً لصحيفة "بوسطن غلوب" في منطقة الشرق الأوسط،

عبرت له وقتها عن حزني لمغادرته منطقة كان من الواضح أنه يستمتع بالعمل مراسلا فيها فقال لي إنه من الأفضل أن أدخر أسفي لشخص آخر وأنه سعيد لمغادرته المنطقة، وأن واحدا من دواعي سروره كان هو أنه لن يكون مضطرا بعد ذلك لأن يغير الحقيقة كي تتلاءم مع رغبات "قطاع عالي الصوت من قراء الصحيفة"، قال لي أيضا : "لقد كنت معتادا في تقاريري أن أشير إلى حزب الليكود بـ "الجناح اليميني" بيد أن محرري صحيفتي أخبروني مؤخرا بأنه يتعين عليَّ »عدم استخدام هذه الكلمة لأن الكثير من القراء يعترضون على هذا الوصف".

عندما قال لي زميلي "قطاع عالي الصوت من قراء الجريدة" أدركت على الفور أنه يعني "أصدقاء إسرائيل"، ولكنني كنت أعرف أن "الليكود" تحت حكم بنيامين نتنياهو كان على الدوام يمثل "الجناح اليميني".

كان هذا هو الجزء المعنوي الظاهر من جبل الجليد الذي اصطدمت به الصحافة الأميركية في الشرق الأوسط فالمستوطنات اليهودية غير القانونية، على الأرض العربية أصبحت "مستعمرات" واعتدنا أن نسميها كذلك، ولا يمكنني أن أحدد النقطة التي بدأنا نستخدم فيكلمة "مستعمرات" ولكنني أستطيع أن أتذكر أنه منذ سنتين تقريبا تم تغيير كلمة "مستوطنات" بعبارة جديدة هي ا"لأحياء اليهودية"

على نفس المنوال تم تخفيف مصطلح "الأرض الفلسطينية المحتلة" في العديد من تقارير وسائل الإعـلام الأميركية ليصبح "الأراضي الفلسطينية المتنازع عليها". وهناك أيضا "الحائط"، ذلك البناء الأسمنتي الضخم الذي أقيم -حسب السلطات الإسرائيلية ذاتها, بغرض منع الانتحاريين الفلسطينيين من قتل المدنيين الإسرائيليين الأبرياء، ومن هذه الناحية يمكن القول إن هذا "الحائط"قد حقق غرضه ولكن المشكلة هي أنه لا يتبع في مساره خط الحدود الإسرائيلية التي كانت قائمة قبل عام 1967، بل ويمر في عمق الأراضي العربية، وكثيراً ما يشار إليه هذه الأيام بكلمة "السور" بدلا من كلمة "الحائط"، أو حتى "الحاجز الأمني"،

وقال لنا الإسرائيليون في معرض تبريرهم لتسميته بـ "سور" بدلا من "حائط" إنه في الكثير من المناطق ليس مرتفعا بالدرجة التي تجيز تسميته بـ "بحائط" على الإطلاق، وبالتالي فلا نستطيع أن نطلق عليه كلمة "حائط",رغم أن هذا البناء الخرساني الذي يتلوى كالثعبان شرق القدس أعلى من حائط برلين القديم، والتأثير المفاهيمي لهذا التشويش الصحفي واضح غاية الوضوح، فإذا ما كانت الأرض الفلسطينية غير محتلة وإنما "متنازع عليها"فقط فمعنى ذلك أن مشكلة هذه الأرض يمكن حلها في محكمة من المحاكم العادية أو خلال جلسة شاي، وبالتالي فأي طفل فلسطيني يمسك حجراً ويلقيه على جندي إسرائيلي في هذه المناطق سيتم وصفه بأنه يتصرف كالمعتوهين.

وإذا ما كانت المستعمرة اليهودية المقامة على نحو غير قانوني في أرض عربية مجرد "ضاحية صديقة ولطيفة" فإن أي فلسطيني يقوم بمهاجمتها سيتم اعتباره ينفذ عملا إرهابيا طائشا. وبالتأكيد لن يكون هناك سبب يدعو للاعتراض على بناء "سور" أو "حاجز أمني" لأن هاتين الكلمتين تستحضران إلى الذهن سور الحديقة أو حاجز البوابة الموجودة في مجمع سكني خاص. وإذا ما قام الفلسطينيون بالاعتراض بشكل عنيف على أي ظاهرة من تلك الظواهر المشار إليها أعلاه فإن ذلك يصمهم كجنس بأنهم"أشرار" يستحقون الإدانة.

ونحن نتبع هذه القواعد غير المكتوبة في مكان آخر في المنطقة، فالصحفيون الأميركيون يقومون بشكل متكرر باستخدام الأوصاف التي كان المسؤولون الأميركيون يستخدمونها في الأيام الأولى للتمرد العراقي، حيث كان يشار إلى الأفراد الذين يقومون بمهاجمة القوات الأميركية.

بأنهم "متمردون" أو"إرهابيون" أو "فلول النظام السابق"، لقد قام الصحافيون الأميركيون على نحو مشوَّه في الحقيقة ودون مناقشة، باستخدام التعبيرات نفسها التي كان يستخدمها الحاكم المدني الأميركي للعراق بول بريمر.

في الوقت ذاته يواصل التلفزيون الأميركي تقديمه للحرب على أنها مجرد حفرة رملية كبيرة غير دموية ,كتلك التي يلهو فيها الأطفال، يتم فيها إخفاء أهوال الصراع , الجثث المشوهة لضحايا القصف الجوي التي مزقتها الكلاب المتوحشة إربا في الصحراء, بعيدا عن آلات التصوير.

فالمحررون المسؤولون في نيويورك ولندن حريصون على عدم جرح"الأحاسيس المرهفة" للمشاهدين، وعلى إثبات أن وسائل إعلامنا لا تنغمس في »بورنوغرافيا الموت« أو عرض صور القتلى المروعة وأنها لا تعمد إلى الحط من كرامة الموتى الذين قمنا بقتلهم تواً .

وتغطيتنا المصورة الحصيفة والحذرة للحرب تجعل من مسألة تأييد تلك الحرب أمرا سهلا، والحقيقة أن الصحفيين منذ وقت طويل قد غدوا متواطئين مع الحكومات في جعل مشاهد الحرب والموت أكثر قبولا لدى المشاهدين، بل ويمكن القول هنا إن الصحافة التلفزيونية قد باتت لازمة من اللوازم ذات التأثير الضار للحرب، فيما مضى من أيام كنا نعتقد أن الصحفيين يجب أن ينقلوا الحقيقة كما هي، ألم نكن نعتقد ذلك؟ نعم، لذا ينبغي علينا أن نسمى المستوطنة مستوطنة والاحتلال احتلالاً والحائط حائطاً وأن نكشف حقيقة الحرب وأنها لا تمثل نصراً أو هزيمة وإنما هي تعبير عن الفشل الكامل للروح الإنسانية.



مراسل صحيفة الإندبندنت اللندنية في منطقة الشرق الأوسط
باشتراك مع لوس أنجلس تايمز وواشنطن بوست والاتحاد الاماراتية.




تابعونا على فيسبوك