لا عـزاء للمتفـائلـين

الجمعة 13 يناير 2006 - 10:40
القدس المحتلة

بعد انتخاب"عمير بيريتس" لزعامة حزب "العمل" الإسرائيلي، راح بعض المعلقين والكتاب الصهاينة، ومعهم بعض الكتاب العرب أيضاً، يعلقون عليه الآمال، ويبشرون بعهد جديد للحزب وللدولة الصهيونية على حد سواء.

فهناك من رأى أن بيريتس، إذا ما قُدر له أن يفوز حزبه في الانتخابات المقبلة ويقوده إلى سدة الحكم، سيكون الأقدر على تحقيق تسوية مع الفلسطينيين وفي المضي خطوات أوسع في هذا الطريق من تلك التي أقدم عليها شارون عكيفا إلدار، صحيفة هآرتس، 11 نوفمبر 2005.

وهناك من توقع أن يؤدي تركيز "بيريتس" على القضايا الاجتماعية إلى الحد من الأعباء الأمنية وتبني نهج سلمي يضع حداً لمشاكل الاحتلال والاستيطان والصراع المستمر أوري أفنيري، موقع جوش شالوم، 29 أكتوبر 2005.

وهناك في النهاية من رأى أن صعود "بيريتس"كان العنصر الحاسم في تفكيك حزب "الليكود"وفي دفع شارون وآخرين إلى الانشقاق عنه، مما يضفي ملامح جديدة على الخريطة السياسية في الكيان الصهيوني ألوف بن، صحيفة هآرتس، 20 نوفمبر 2005، إلا إن"بيريتس" نفسه لم يمهل هؤلاء المتفائلين طويلاً، فسرعان ما أفصح عن رفضه لإقرار حق العودة للفلسطينيين أو المساومة على القدس الموحدة، كما كرر الاتهامات التقليدية للفلسطينيين بعدم التجاوب مع"مبادرات"السلام الإسرائيلية وبالاستمرار في الأعمال الإرهابية، وهو ما اعتبره البعض بمثابة إعلان حرب تحت ستار السلام، حيث يعكس إيمان حزب"العمل"بأن له "حقا" في شن حرب لا هوادة فيها على العرب ما دام يرفع شعارات سلمية (عاموس جلبوع، صحيفة معاريف، 13 ديسمبر 2005، بينما اعتبره البعض الآخر رسالة هجومية أقرب ما تكون إلى الخطاب الذي يتبناه شارون تالي ليبكين شاحك، صحيفة معاريف، 20 ديسمبر 2005.

والواقع أن مواقف "بيريتس" هذه لا تمثل مفاجأة على الإطلاق، فبعد أن أفاق من نشوة النصر غير المتوقع الذي حققه في حزب "العمل"، وبعد أن ذهب بريق الشعارات الانتخابية التي لا تُقصد لذاتها بقدر ما تهدف إلى كسب مزيد من الأصوات، وجد "بيريتس" نفسه أمام قضية"شرعية الوجود"، وهي قضية أساسية تواجه الكيان الصهيوني منذ نشأته الشاذة، ولا يملك هو، كما لم يملك الزعماء الصهاينة من قبله، أي حل ناجع لها، لأن هذا يعني ببساطة تغيير الطابع العنصري الاستعماري لهذا الكيان.

ويمكن القول إن الشرعية هي حالة الصلاحية والقبول التي يحظى بها أفراد النخبة الحاكمة والمنظمات والحركات والنظم السياسية التي تخول لهؤلاء السلطة، وقد اكتسبت الدولة الصهيونية "شرعيتها" من مصادر ثلاثة أساسية : أولها الاستعمار الغربي، باعتباره القوة التي أسست الدولة الصهيونية ورعتها ومنحتها الاعتراف الدولي لكي تقوم بوظيفة الدفاع عن المصالح الاستعمارية الغربية في المنطقة، والعنصر الثاني هو أعضاء الجماعات اليهودية في العالم، باعتبارهم القوة التي تدعم المستوطن الصهيوني وتمارس الضغط من أجله، على أن تقوم الدولة بحماية هويتهم وتنميتها، بشرط ألا تتدخل في شؤونهم أو تثير الشكوك حول ولائهم لأوطانهم.

أما العنصر الثالث فهو المستوطنون الصهاينة الذين يشكلون مواطني هذه الدولة، وهم يطلبون من دولتهم أن توفر لهم الأمن والخدمات المختلفة كما هو الحال مع كل الدول.
وقد اهتزت "الشرعية"الصهيونية تجاه الجماعات اليهودية في الخارج وتجاه المستوطنين في الداخل، بسبب الأزمات التي ظلت دون حل، بل وتفاقمت، بعد إنشاء الدولة الصهيونية، مثل أزمة الهوية اليهودية وفشل الدولة التي تدعي أنها"يهودية" في تطبيع الشخصية اليهودية، والأزمة السكانية التي تتزايد مع نضوب موارد الهجرة اليهودية وتصاعد معدلات الإنجاب في أوساط الفلسطينيين، والاستيطان بما يعنيه من أعباء اقتصادية وأمنية وسياسية، والصراع المستمر مع الدول العربية المجاورة، والإخفاق في إخماد مقاومة الشعب الفلسطيني ومن ثم الإخفاق في توفير الأمن للمستوطنين، فضلاً عن استمرار الممارسات الوحشية والعنصرية التي لا تملك الدولة الصهيونية بديلاً عنها للقيام بوظيفتها.

بيد أن التحدي الأساسي الذي تواجهه هذه الشرعية التي تدعيها الحركة الصهيونية ودولتها يتمثل في قضية "شرعية الوجود"، أو ما أسماه الكاتب الإسرائيلي عاموس إيلون "عقدة الشرعية"، وهي مشكلة جوهرية واجهتها جميع الجيوب الاستيطانية التي فشلت في القضاء على السكان الأصليين، وقد حاولت الحركة الصهيونية تغييب هذه المشكلة من خلال الخطاب المراوغ على مستوى القول، ومن خلال ممارسة أقصى درجات العنف على مستوى الفعل، فقد طرحت الشعار المضلل"أرض بلا شعب لشعب بلا أرض"وعززته بترسانة هائلة من الأسلحة مما حول الدولة إلى قلعة عسكرية في حالة حرب دائمة.

وبالرغم من هذا كله، فقد ظل العربي الفلسطيني، الذي لم يغيبه الشعار المضلل، رافضاً لعملية التغييب أو الطمس، وظلت حركته تؤكد وجوده وحقوقه وتتحدى "شرعية" الوجود الصهيوني، فوجود الشعب الفلسطيني على أرضه واستمرار تمسكه بحقوقه التاريخية ونضاله من أجل استعادتها هو في حد ذاته تأكيد لأن ما يُسمى"إسرائيل" هو في الحقيقة "فلسطين".

وأن شعار "أرض بلا شعب لشعب بلا أرض يعني في نهاية المطاف "أرضا يطرد شعبها منها استنادا إلى القوة الاستعمارية الغاشمة لتحل محله فلول من المستوطنين الغرباء الذين جلبوا من مختلف بقاع الأرض"، وهو وضع لا يمكن أن يُكتب له الاستمرار أو الاستقرار مهما طال أمده، ولا يقتصر هذا الوجود الفلسطيني على مجرد التواجد في المكان فحسب، بل يمتد ليشمل مختلف المستويات السكانية والثقافية والنضالية، فالفلسطيني الذي يصطدم به الوعي الصهيوني في كل لحظة هو رجل يعيد غرس أشجار الزيتون التي يقتلعها الغزاة ويمد معها جذوره في المكان والزمان، وهو طفل يواجه الآلة العسكرية بالحجر ويظهر عجزها عن القضاء على الحقائق البسيطة، وامرأة تلد المقاتلين ولا تعبأ بالموت بل تودع شهداءها بالزغاريد، مما يزيد من مأزق المستوطنين ويضعهم أمام حقيقتهم الصريحة كمستعمرين محتلين، والملاحظ أن أزمة"شرعية الوجود" تظل حاضرة على الدوام، حتى وإن حاولت الحركة الصهيونية ودولتها الالتفاف عليها أو إنكارها.

ولعل إدراك هذا الحضور وخطورة أبعاده هو الذي يدفع "بيريتس" إلى التلويح بقدرته على تبني سياسات أكثر شدة ضد الفلسطينيين، وإلى الادعاء بأنه لن يكون أقل من شارون في البطش بالشعب الفلسطيني ومواجهة الهواجس الأمنية للمستوطنين.

فهو يعرف ولاشك من خبرة الكيان الصهيوني أن القضايا الاقتصادية والاجتماعية، التي جعلها عنواناً لمعركته الانتخابية، تأتي دائما في مرتبة تالية للقضايا الأمنية التي هي في نهاية الأمر انعكاس لقضية شرعية الوجود، وأن تحسين الظروف المعيشية وإيجاد مزيد من فرص العمل لن يوفر حلاً لهذه القضية الجوهرية، أما أولئك الذين بالغوا في التفاؤل بمجيء بيريتس، فلا عزاء لهم
والله أعلم.





تابعونا على فيسبوك