حول مشروعية انتقاد القيادات الدينية

الإثنين 16 يناير 2006 - 11:40

الضجة التي ثارت بسبب توجيه انتقادات لآية الله السيستاني في إحدى القنوات الفضائية قبل أسابيع تستحق تأملاً هادئاً بعد مرور الأزمة، ليس القصد هنا إثارة ما تمت تهدئته، ولا حتى الخوض في تفاصيل ما حدث.

بقدر ما هو التوقف عند سؤال أساسي طرحته تلك الضجة، وهو علاقة القيادات الدينية بالسياسة، ومشروعية انتقادهم وانتقاد مواقفهم عندما ينخرطون في السياسة، وهذا السؤال وطيد الصلة بالطبع بالسؤال الأكبر والأشمل وهو علاقة الدين بالسياسة والإشكاليات الموصولة بها.

آية الله السيستاني رجل دين ذو مكانة مرموقة، يحتل درجة رفيعة في هرمية آيات الله ومرجعيات علوم الدين، ويتمتع باحترام وتوقير ملايين المسلمين الشيعة، خلال الحرب في العراق وجد نفسه في معمعة السياسة، فاتخذ مواقف عديدة في غاية الحساسية والأهمية والخلافية أيضاً، خلافية لأنها تنتسب إلى التسيس والسياسة اللذين هما خلافيان بالطبيعة والتعريف، لا يمكن لأي كان أن يمارس السياسة من دون أن تكون مواقفه خلافية، يؤيدها بعض الناس، ويخالفها البعض الآخر .

الكثير من مواقف السيستاني اتسم بالحكمة والرصانة والحرص على إزاحة كابوس الحرب الطائفية في العراق، نظرته ومواقفه أغلبها اتسم ببعد نظر، بيد أنها ليست فوق النقاش أو معصومة عن الخطأ، فكثيرون رأوا في تلك المواقف خلاف ذلك، رأوها مهادنة للاحتلال الأميركي، ومسهلة لمهمته في العراق، وأن يُتهم السيستاني بأنه هادن الاحتلال الأميركي فإن هذا رأي سياسي لقائله ولا يستحق زوبعة التكفير التي طالت من نطق بذلك الاتهام.

وفي وضع مشحون بالتوتر والخلاف والاتهامات المتبادلة لا يتوقع إلا ساذج أن تحظى آراء السيستاني ومواقفه، أو آراء ومواقف أي سياسي عراقي آخر، أو أي رجل دين عراقي يفتي في السياسة بالرضى التام من قبل جميع الأطراف، أي رأي سياسي له مؤيدون وله معارضون، ولا يحق لمن يأتي إلى السياسة كي يشتغل فيها ألا يتوقع الانتقاد والتورط في لعبة الاتهام والاتهام المتبادل من قبل أي كان في المجتمع، السياسة هي "الاشتغال بأمور العامة" ومن حق أي فرد من "العامة"أن يفتي فيها وأن يقول رأيه وأن ينتقد كل رأي آخر.

لو كان آية الله السيستاني يفتي في قضايا دينية فحسب، لكان انتقاد ما يقوله مقصوراً على نظرائه في العلم الديني، ومن هم في مستوى مرجعيته، أو من يستطيع الخوض باقتدار في تفاصيل المسألة المطروحة، لكن عندما يتحدث في السياسة فإنه بالتعريف يجب أن يقبل النقاش والانتقاد والمعارضة.

ليس أكثر من الانتقادات الدائمة التي وجهت وتوجه إلى شيخ الأزهر، بل إلى سلسلة شيوخ الأزهر منذ عقود، بسبب بعض مواقفهم السياسية، من أولئك الشيوخ من أيد كل سياسات عبدالناصر، ومنهم من أيد سياسة أنور السادات والصلح مع إسرائيل، جميعهم أفتوا في السياسة وأغلبهم احترقت أيديهم جراء ذلك وانتقدوا واتهموا، الشيخ أحمد ياسين المؤسس الروحي لحركة "حماس" انتقد عدة مرات في مواقفه السياسية، ووجه باتهامات عديدة ومباشرة، الشيخ عبدالعزيز بن باز، المفتي السابق للسعودية.

انتقد بشدة أيضاً في مواقف سياسية مختلفة، والشيخ القرضاوي انتقد كثيراً وكثيراً بسبب عدد من الفتاوى السياسية التي أطلقها، والترابي والغنوشي والزنداني وقائمة لا تنتهي من رجال الدين الذين يشتغلون في السياسة يواجهون انتقادات وتهما بشكل دائم لا ينقطع، كل ذلك لا يقلل من مكانة هؤلاء الشيوخ الدينية، لكنه الضريبة الطبيعية والمتوقعة لانخراطهم في السياسة، عندما يدخلون عتبة السياسة يخلعون عن أنفسهم وقار الدين الذي تعودوا عليه، وعليهم عندئذ ألا يتوقعوا أن يعاملهم الجميع بما في ذلك خصومهم تعامل المريد مع شيخه، فأقدامهم تنزلق في وحل السياسة ولن تبقى نظيفة يقطر منها ماء الوضوء.
المسألة هي أن الانخراط في قضايا السياسة أمر جدي ولا يحتمل المزاح أو المجاملة.

عندما يشتغل رجل الدين في السياسة لابد من انتقاده، فانتقاد السيستاني وأي رجل دين مهما علت مكانته الدينية عندما يفتي في السياسة أمر متوقع ومشروع بل ومطلوب، لأن النقد الدائم هو جوهر العمل السياسي وهو الذي يرشده، لا يمكن قبول الاحتماء بالمكانة الدينية وإطلاق فتاوى سياسية من وراء جدار الدين وعدم توقع تراشق سياسي مقابل، رجل الدين الذي يشتغل في السياسة ليس فوق الخلاف، وليس محل إجماع عام، فقد غامر بمركزه السابق وبكونه محل إجماع لحظة قرر أن يخوض السياسة، فلا يلومن إلا نفسه, ورجل الدين في الإسلام حتى عندما يُفتي في الدين فإنه ليس محل عصمة.
ويبقى عرضة للانتقاد والاختلاف معه، وانفتاح باب نقد علماء الدين والإقرار بخلافاتهم والخلاف معهم هو أحد العناصر التي تفتخر بها الثقافة الإسلامية بكونه ساهم في خلق بيئة حرية الفكر والتفكير والاعتراض وإثارة الأفكار، الحجر على النقد معناه رعاية التحجر الفكري والجمود السياسي.

في الثقافة والتاريخ الإسلامي ليس هناك معصومية لأحد سوى الرسول، فمن تلاه من خلفاء انتقدوا في بعض سياساتهم ومواقفهم والقرارات التي اتخذوها، حربا، أم سلما، تحالفاً، أم خصاماً، بل إن أقسى وأشد الحروب والخلافات في تواريخ الإسلام قامت بين الجيل الأقرب لعهد النبوة،.

وانبنت عليها انشقاقات طائفية داخل الإسلام استمرت حتى الآن، في الثقافات الأخرى ليس هناك سوى نفس القصة، فلئن كان باباوات الفاتيكان، مثلاً، قد احتلوا تباعاً المكانة الأقدس دينياً في العالم الكاثوليكي، فإن ذلك لم يحصنهم من النقد المتواصل تجاه العديد من المواقف والفتاوى السياسية التي كانوا يتبنونها.

كيف تحل مشكلة انتقاد القيادات الدينية إذن؟ عملياً وواقعياً، ليس هناك مشكلة كي يبحث لها عن حل طالما يخوض رجال الدين في بحر السياسة فعليهم أن يتوقعوا أن يطالهم صخبها وضجيجها، وما سبق كله ليس سوى الجانب الأيسر من إشكالية علاقة الدين نفسه بالسياسة، فما يلحق بعلماء الدين من انتقاد واتهام وسوى ذلك يزحف بالتدريج ليطال الدين نفسه عندما ينخرط بالكلية في السياسة.

إذ عندها يتعذر على الناس التفريق بين الموقف السياسي والموقف الديني، ويصبح من الصعب عليهم معرفة إن كان الموقف المعني الصادر عن رجل الدين المسيس موقف الدين أو موقف السياسة التي يتبناها رجل الدين ذاك، عندما تختلط الأمور ويبهت الفارق بين الفتوى الدينية والفتوى السياسية تتكبل السياسة وتتقزم، ويتحول الدين إلى أداة توظيف يستخدمها المسيسون، ويظن هؤلاء أنهم ينتصرون على خصومهم بالضربة القاضية عندما يستخدمون الدين في الصراع السياسي، لكن ما يفوتهم هو أن المعول الذي يعتمدون عليه في تحطيم الآخرين على المستوى القصير يحطم موقع الدين نفسه على المدى الطويل.

استاذ زائر بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة كامبردج
باشتراك مع الاتحاد الإماراتية




تابعونا على فيسبوك