الإرث المأساوي لحرب العراق

الأحد 15 يناير 2006 - 14:50
جنود أميركيين في العراق

بصرف النظر عما تقوله كل من واشنطن ولندن لتبرير الإطاحة بنظام صدام حسين، فإن الاستنتاج الذي لا مهرب منه هو أن العراق اليوم قد غدا "دولة فاشلة"، هذه هي النتيجة الرئيسية للحرب غير الشرعية، التي شنتها العاصمتان في مارس 2003 بناء على أكاذيب واختلاقات، وهي الحر

والأمر المؤكد هو أن الرئيس الأميركي جورج بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير مسؤولان عن واحد من أكبر الأخطـاء ـ وربما أكثرها إجراما ـ في التاريخ الحديث لبلديهما، ولو كانت هناك أي عدالة في عالمنا، لتم تقديمهما للمحاكمة وتمت محاسبتهما على أفعالهما. ولكن ما الذي يعنيه مصطلح "الدولة الفاشلة" في الواقع العملي، إنه يعني أن العراق قد أصبح دولة بلا قانون، مقسمة على أساس خطوط عرقية، وتحكمها مليشيات العنف، وتخلو من حكومة مركزية فعالة، ولا يوجد بها جيش وطني، أو توافق بين مواطنيها على موضوعات الهوية، والتماسك المجتمعي، أو نظام الحكم المستقبلي للدولة، وهو يعني أيضا أنه في مثل هذه "الدولة الفاشلة" يجد الفاعلون اللادوليون (ممن هم خارج نظام الدولة) مثل تنظيم "القاعدة" في العراق الذي يرأسه الزرقاوي، الحرية في القيام بما يشاؤون من عمليات
.
وهناك أحاديث تتردد الآن عن "طلبنة" العراق، أو عن تحوله إلى أرض لتفريخ المتطرفين والإرهابيين الذين يمكن أن يمتد تأثيرهم فيما وراء حدود العراق إلى جيرانه، والعراق أيضا دولة واقعة تحت الاحتلال الأجنبي، ولا تلوح أي بوادر عملية تدل على أن هذا الاحتلال سينتهي خلال المستقبل الوشيك، وفي الحقيقة فإن العراق عالق في ورطة، فبوش وبلير يقولان إنهما سيسحبان قواتهما عندما يصبح العراقيون على درجة من القوة تسمح لهم بالمحافظة على النظام في بلدهم، ولكننا نجد في نفس الوقت أنه كلما طال أمد الاحتلال، كلما قل احتمال تبلور حكومة عراقية شرعية قادرة على استقطاب دعم واسع، وقد حظيت الانتخابات التي جرت في الخامس عشر من ديسمبر الماضي بالثناء من بعض الجهات، باعتبارها الخطوة الأولى نحو إقامة عراق مسالم ومتحد وديمقراطي، ولكن القتل اليومي المستمر للعراقيين الأبرياء، وفقدان روح التوافق بين زعماء الجماعات المختلفة يقولان لنا شيئا مختلفا تماما.

وبقاء الحكومة العراقية المؤقتة الحالية يعتمد، في ما يبدو من ظاهر الحال، على حماية القوى الأجنبية، وهو ما سينطبق على أي حكومة سيتم تشكيلها بعد انتهاء الجولات الحالية من المساومات المطولة والشاقة، والمسألة الآن ليست هي نهوض عراق "جديد" من بين الرماد، ولكن هي ما إذا كانت هناك أوقات أسوأ من الأوقات الحالية سوف تأتي في ما بعد أم لا؟.

بعض المراقبين يخشون اندلاع حرب أهلية، والبعض الآخر يزعمون أن هجمات العصابات، وعمليات الخطف، والقتل، والتطهير العرقي، التي تحدث يوميا في العراق، تعني أن الحرب الأهلية قد بدأت بالفعل، على أي حال، يمكن القول إن العراق »القديم« لم يعد قائما، حيث تشظى ولم يعد ممكنا الآن تجميع تلك الشظايا مرة أخرى، وقبل أن تندلع دورة العنف التي بدأت مع الحرب العراقية ـ الإيرانية (1988 ) كان العراق دولة وحدوية، ولاعبا رئيسيا في الشؤون العربية، ومنارة للقومية، وحارسا لبوابة العرب الشرقية، ودولة ذات اقتصاد مزدهر، وسكان متعلمين، حققت تقدما مدهشا في مجال العلوم والثقافة والفنون إلى درجة جعلت منها منافسا على قيادة الدول العربية.

على الرغم من ذلك كان العراق يعاني من نقطتي ضعف رئيسيتين، الأولى، أن صدام كان ديكتاتورا متوحشا، عديم الرحمة تجاه أعدائه، أقام حكمه على الخوف وليس على المؤسسات أو حكم القانون اللازم لإقامة دولة عصرية قابلة للحياة، نقطة الضعف الثانية هي:أن حكومات العراق لم تكن تعكس بشكل منصف التنوع العرقي والطائفي للبلاد، حيث لم يكن الشيعة والأكراد على وجه الخصوص، ممثلين بشكل صحيح في نظام الحكم الأوتوقراطي الذي يهيمن عليه السنة، وليس هذا فحسب وإنما كانوا كلما ثاروا على هذا الوضع، يتم قمعهم بوحشية.

اليوم نجد أن السنة مهمشين وغاضبين، وأن الأكراد قد حققوا درجة متقدمة من الحكم الذاتي، وإن كانوا لم يصلوا بعد إلى ما يريدون وهو الاستقلال والسيطرة على منطقة كركوك الغنية بالنفط، في حين يبدو الشيعة متأهبين لحكم ما تبقى من العراق، وعلى اعتبار ما يقال من أنهم أكبر جماعة طائفية في العراق حتى الآن، فإنهم ينوون الاستيلاء على السلطة والتمسك بها بعد ذلك، والمرجع الشيعي الأعلى في العراق آية الله علي السيستاني دعا إلى حكومة وحدة وطنية تشمل السنة، ولكن الرجال المتشددين الذين يقودون المليشيات الشيعية لا يظهرون هذا النوع من روح التوافق، وإنما يريدون أن يهيمنوا على أي حكومة عراقية مستقبلية، كما أن الأرجح هو أنهم سيسعون إلى الانتقام من السنة بسبب المصاعب التي عانوها على يدي صدام في الماضي.

إن الفضاء السياسي العربي قد تغير تغيرا جذريا كنتيجة للتدخل العسكري الأجنبي الضخم الذي حدث، وهو تدخل لم يرَ العالم العربي له مثيلا منذ أن قامت بريطانيا بتحرير الولايات العربية من قبضة الإمبراطورية العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى.

لقد بات واضحا الآن أن أميركا وبريطانيا لا يمكنهما البقاء في العراق للأبد، فالرأي العام في البلدين انقلب ضد الحرب، علاوة على أن الحروب التي تنتمي إلى النمط القديم والتي كانت تشن للسيطرة على المواد الخام الحيوية، قد أصبحت عتيقة الطراز في القرن الحادي والعشرين، وبريطانيا، الشريك الأصغر في هذه الحرب، لم تعان من الخسائر الفادحة التي عانت منها الولايات المتحدة، ففاتورة الحرب بالنسبة لبريطانيا، وعلى الرغم من أنها قد وصلت إلى ما يقارب 20 مليار جنيه استرليني، إلا أنها لا تقارن بفاتورة الحرب التي دفعتها أميركا والتي وصلت الآن أزيد من 300 مليار دولار، أما العالم العربي فلا يزال يتعين عليه أن يستوعب ـ بل وأن يعاني دون شك ـ تداعيات الحرب العراقية وهي: تدمير دولة عربية رئيسية، وتغيير ميزان القوى الإقليمي، وتفاقم التوتر بين السنة والشيعة، وانتشار عدم الأمن_ إنه إرث مأساوي حقا.




تابعونا على فيسبوك