تبدو كهوف دير الأطلس أو كما يسميها قاطنوها بـ " الكيفان" على أنها مآوي لغير بني البشر، لكن إذا ما دخلتها عبر فتحة بابها الوحيد ومنفذها الأوحد، فإنك تجد نفسك مفعما بمشاهد مغرية على البحث في عوالم اجتماعية مستعصية الفهم.
"ناقصين الكرا وصافي" بهذه العبارة يستقبلك سكان كهوف مركز البهاليل الحضري، آملين في إشراقة غد أفضل لإيجاد مساكن تليق بكرامة واعتبار بني البشر "مي فاظمة" امرأة عجوز، نال الشيب من عمرها الشيء الكثير وهي ترقد كهفا يسحر بأسرار جماله، لتستقبل بين الفينة والأخرى سياحا من بقاع شتى من العالم.
تقول "مي فاظمة" وهي تتلمس حيطان كهفها " الكاريستي" أن زوارها لا يأتون إلى مرقدها عبثا، بل يرغبون في تلمس واقع آخر غير عالمهم الرقمي وتضيف أنها تجتهد لاستقبال زوارها من السياح الأجانب بحفاوة لا مثيل لها، وفي فضاء رباني فريد، يجلس ضيوفها لتحكي لهم حلاوة عيش مغلفة ببؤس واقع مر من تحت صخور شكلت فيها قوى الطبيعة كهفا عجيبا ضم بين حيطانه الصخرية كائنات شتى على مر الأحقاب والعصور
تبذل (مي فاظمة) كما يسميها جيران زنقة كهف السيل حيث تقيم وحيدة، الكثير من العناية للحفاظ على نظافة كهف يقيها قساوة الطبيعة وظلم الإنسان ويضمن لها قوت عيشها الحافي.
بهذا الكهف يقف الزائر مشدوها إلى فضاء بدائي حافل بمنتهى شروط النظافة والنقاوة التي تبديها العجوز، حتى يكون مثارا لإعجاب زوارها الذين يمدونها ببعض النقود أحيانا لكي تسد بها رمقها، وبداخل هذا الكهف الوديع حيث الهدوء وزخرفة الطبيعة، تحرص " مي فاظمة" على أن يظل مأواها ومعيلها الدائم على النوائب والأيام أنقى من نقاوة صالونات وغرف الأثرياء.
وغير بعيد عن كهف " مي فاظمة«، يرقد الحاج عنقودة بكهف يحمل اسمه تحت صخرة وهبته إياها زاوية، ليقضي به ما تبقى من عمره الذي فاق قرنا وعقد ونيف من الزمن، لا يكاد الحاج عنقودة يفارق محراثه الخشبي في انتظار قدوم فلاح ما ليشتريه عنه، حيث اتخذ لنفسه هذا الصنف من الحرفة تجارة المحراث الخشبي لأجل أن يضمن قوت يومه مع مزارعين وفلاحين فقراء من طينته بعدما هجرته زوجته وأهاليه.
تحدث الحاج عنقودة وهو يتحسس قارورة غاز أمامه، ليعد لنفسه كأس شاي، أنه حج بيت الله الحرام مرتين، مرة مشيا على قدميه ومرة أخرى على متن الطائرة يجد هذا الحاج ضالته وحيدا في كهفه البدائي بمركز حضري رغم افتقاده لأدنى شروط العيش.
وعلى منوال الحاج عنقودة و" مي فاظمة" تعيش أزيد من 150 أسرة بالبهاليل العليا تحت سقف كيفان طبيعية أدخل أصحابها إصلاحات على مدخل واجهتها لستر عورة الأسر القاطنة بها والظفر بمداخيل أكرية تتراوح قيمتها الشهرية بين 80 درهما و150 درهما كحد أقصى.
إذا كانت مدينة صفرو عرفت أول استقرار بشري بالكهوف حيث الطبيعة الكاريستية للصخور، فإن هذه الأخيرة ساعدت من حيث كثافتها على استقرار الإنسان بها منذ عهود ما قبل التاريخ كما تشير إلى ذلك الحفريات المقامة بصخور وكهوف البهاليل.
وإلى حدود العقد السابع من القرن الماضي، كانت البهاليل، حسبما جاء على لسان شيوخها، مدينة كهوف وأنه منذ بداية ثمانينات القرن نفسه، بدأت مداخيل الأسر البهلولية القاطنة بها تشهد تحسنات نسبية، ما دفع بقاطنيها إلى إدخال تغييرات عليها، بإضافة أبواب حديدية وواجهة إسمنتية مع الاحتفاظ بالخصائص الطبيعية لفضائها الداخلي.
ومع هذا التحول لجأ معظم قاطني الكهوف إلى بناء مساكن حديثة من طابق إلى ثلاثة طوابق على سطح الكهوف، وهو ما أخفى المشهد الذي كان يميز البهاليل عن غيرها، وجعل أسرها تعمد إلى اكتراء كهوفها المحتفظ بها، كطابق سفلي للقرويين النازحين من سنوات الجفاف.
76 ٪ من قاطنيها نساء أرامل تكشف دراسة ميدانية، حول الوضع المعيشي لقاطني الكهوف، كانت أعدتها إحدى جمعيات المجتمع المدني بالمنطقة السنة الماضية، أن ما يزيد عن 97 بالمائة من ساكنة الكهوف بمركزي إيموزار كندر والبهاليل تعيش مستويات فقر مدقع، إذ تؤوي 89 بالمائة منها ما يزيد عن أربعة أفراد في الكهف الواحد.
وكشفت الدراسة أيضا عن أن 76 بالمائة من قاطني الكهوف نساء أرامل، وأن الحاجة تدفع بعضهن لامتهان أرذل والمهن وأحطها، وأوردت الدراسة الميدانية أن طبيعة استغلال سكن الكهوف تتم في 91 بالمائة عن طريق الكراء من مالكيها الأصليين، إذ تتراوح أكريتها حسب الدراسة ذاتها بين 80 درهما للكهف الأقل تجهيزا إلى 150 و200 درهم للكهوف المطلية بالصباغة والمتوفرة على بعض التجهيزات الضرورية كالماء والكهرباء والباب الحديدي، وأشارت الدراسة إلى أن 85 بالمائة من كهوف مركز المنزل تفتقر إلى المراحيض والصرف الصحي وأنه يجري في غالب الأحيان استغلال مرحاض واحد لأزيد من أسرتين.
وأوضحت الدراسة في هذا الإطار، أن افتقاد الصرف الصحي، يجعل العديد من الكهوف، تعاني وضعا بات يؤرق راحة واستقرار وصحة قاطنيها وأظهرت الدراسة نفسها، والتي شملت 93 أسرة بالمركزين الحضريين السالفي الذكر، أن 96 بالمائة من ساكني الكهوف بدويون نزحوا من قرى نائية بالأطلس المتوسط، وأنهم يمتهنون حرفا هامشية وشاقة في مجالات البناء والزراعة وبعض الخدمات بالنسبة للذكور وأن الإناث، يشتغلن خادمات في البيوت وعاملات في جني منتوج الورديات والفواكه ويضطر عدد منهن بحسب الدراسة دائما إلى امتهان الدعارة بشكل سري لتوفير متطلبات العيش.
من جهة أخرى، أظهرت الدراسة التي جرى إنجازها في محاولة لتحسين ظروف عيش ساكنة الكهوف، أن أزمة السكن الحادة بهذه المراكز، دفعت بمالكيها إلى تهيئتها وإعدادها للكراء أمام الطلب المتزايد عليها من قبل نازحي الهجرة القروية، إذ غالبا ما يجري إفراغها من الدواب أو الدواجن، لاستقبال أسر لم يسعفها الحظ في بناء مسكن غير الاستقرار بهذه الكهوف
الكهوف أرحم في انتظار حل قد يأتي أو لا يأتي في محاولة للإجابة عن طبيعة تنامي هذا النوع من السكن الذي ينقص من كرامة الإنسان، أوضح محمد نجيب حليمي مدير الوكالة الحضرية لجهة فاس بولمان، أن برامج القضاء على السكن غير اللائق، لم تشمل بعد سكن الكهوف بالمراكز السالفة الذكر.
وأضاف أنه بالمقابل، جرى الإعداد لصيغة تمكن قاطنيها من الحصول على قطع أرضية بأسعار مشجعة، غير أن ذلك ، يوضح محمد نجيب حليمي، لم يجر تنفيذه لعدم تمكن الأسر القاطنة بهذه الكهوف من توفير المبلغ المحدد، الأمر الذي جعل أمر التفكير في إيجاد حل لها مستبعدا في ظل تركيز برامج الدولة على مواجهة سكن الصفيح والسكن المهدد بالانهيار في مدينة فاس.
وأكد المسؤول ذاته أن عملية إعادة إسكان قاطني الكهوف، سيجري الإعداد لها بعد الانتهاء من القضاء على سكن الصفيح والآيل للسقوط وبالنظر لتطلعات وآمال قاطني الكهوف في الحصول على سكن لائق، تظل كهوف دير الأطلس المتوسط ومعها الطبيعة الكاريستية لصخورها أرحم بإيواء مئات الأسر الهاربة من قهر الطبيعة والفقر في انتظار حل قد يأتي أو لا يأتي.
على مشارف مدينة صفرو تستقر عدد من الأسر بكهوف على مقربة من ضريح سيدي علي بوسرغين وسيدي أحمد التادلي وفي قرية أولاد بن الطالب وكهف للا يزة، غير أن كهوف " المومن" و" البقرة" و" الغولة" أقدمها استقرارا، إذ حل أول يهودي لجأ إلى صفرو قبل الإسلام بكهف " المومن"، حسب ما أكده باحثون في هذا المجال وهو أحد أكبر كهوف مدينة صفرو ودير الأطلس حجما.
بمجرد أن تقف أمامه يبهرك مشهده العجائبي، تستقبلك بمدخله نغمات ناي شجية تنبعث من جوفه وقد عكف رجل رث الثياب على عزفها وأضواء شموع من حوله تكاد تنير محيطها، يمتد الكهف عبر مدخل رئيسي واسع عند الوسط ليمتد على مسافة أمتار عدة في باطن تشكيلات صخرية متفرعة إلى اتجاهين رئيسيين يشكل الأول غار (المومن) والثاني غار دايفيد المسمى لدى أهالي المنطقة بـ " التاجر" أو " دنيال«، تتخلل المشهد الداخلي للكهف، منعرجات ضيقة وفضاءات فريدة، يلفها ظلام حالك يضفي على مرتاديه هالة وإحساسا روحانيا.
لازال كهف " المومن" يشكل قبلة ومزارا لعدد من المغاربة المسلمون واليهود، فهو يضم غارا خاصا بالمومنين وعلى أساسه سمي بكهف " المومن" ويزوره المسلمين خصيصا، وإلى جانبه يتفرع غار آخر، استقر به راهب يهودي ما جعله يستقطب زوارا غير عاديين يقيمون به حفلات أعياد " الرقاقة" و" الدجاجة" و" شهلولة" ما بين شهري يوليوز وغشت من كل سنة، حيث يعمد أفراد من الجالية المغربية اليهودية لإعداد طقوس احتفالية، تزين من خلالها حيطان وفضاءات الكهف بمختلف أضواء الشموع التي يستقدمها الزوار لهذا الغرض، حيث يفترشون أرضيته ويطوفون بالكهف ليخلصوا في النهاية إلى شرب " ماء الحياة" وتلاوة تراتيل التوراة قبل مغادرته، وعلى منوالهم يأتي مغاربة مسلمون لزيارته وإشعال الشموع بموضع خاص حيث كان يقيم ولي صالح قبل عهود من الزمن.
أول يهودي دخل صفرو أقام بكهف حسب ما أكده باحثون مختصون في تاريخ منطقة صفرو على هامش الملتقى الثقافي السادس عشر الذي اختتمت فعالياته في 15 من الشهر الجاري تحت شعار (صفرو مدينة التعايش)، فإن أول يهودي دخل صفرو، استقر بكهف وأن الكهوف شكلت مستقرا لليهود في بداية الأمر، قبل أن ينزحوا عنها إلى مدينة صفرو لتشكيل حي الملاح ومواضع أخرى.
وعبر رحلة مسافتها 28 كيلومترا عن مدينة البهاليل، مازالت مدينة إيموزار كندر الواقعة بدورها عند دير الأطلس المتوسط، تحبل بكهوف وسط مركزها الحضري، تؤوي عشرات الأسر النازحة من قرى الأطلس النائية. وإذا كانت كهوف البهاليل وصفرو، عرفت نوعا من التحديث على مستوى الصباغة وواجهة المدخل، فإن كهوف إيموزار كندر احتفظت بشكلها البدائي الطبيعي دون أن يطالها تحديث يذكر.
تقطن يطو وحيدة إلى جانب طفلها وابنتها حادة بإحدى كهوف إيموزار كندر، بعدما تخلى عنها زوجها وتركها مشردة رفقة عيالها، لم تجد يطو كما تحكي وهي تذرف دموع الحزن والألم، بدا من أن تلم نفسها وفلذات كبدها بهذا الجحر الصخري اتقاء للبرد والحر رغم أنها لا تذوق للنوم طعما مخافة انهيار الكهف على رأسها وأبنائها.
واستطردت في حيرة من أمرها قائلة إن قساوة ظروف العيش دفعتها لأن تبعث ابنتها حادة للاشتغال في حقول التفاح بمنطقة إيموزار في محاولة منها سد ثمن اكتراء الكهف الذي يحتضنهم وسد رمق عيشهم ومصروف تمدرس وعلاج طفلها سمير الذي يعاني إعاقة حركية وذهنية".
إلا أنه ومع قلة أيام عمل ابنتها وضعف مدخولها وارتفاع تكاليف الحياة، تضطر يطو لأن تستجدي الناس وتستعطفهم من أجل دريهمات، تستر بها كرامتها وتقضي بها حاجاتها في انتظار ما ستجود عليها الأيام.
وتخفي كهوف إيموزار كندر تناقضات يستعصى فهمها، إذ ينفرد أحد كهوفها رغم بساطة العيش به بتوفر القاطنين به على أطباق هوائية لفضائيات (جهاز البارابول)، جعلت أسرها تصارع الزمن الرقمي من تحت سقف كهف بدائي.