لا أحد باستطاعته الآن الجدال في حقيقة الانتشار الكاسح للمقاهي، في جميع المدن، كما في كل الشوارع، للحد الذي ترسب معه واقع وجود بين كل مقهى ومقهى، مقهى،
الذي كان قبل سنين من قبيل مستملحات أحاديث الناس
وبعد أن أضحى هذا المشهد من العادات المألوفة لدينا، ودخوله في نطاق المسلمات في حياتنا اليومية، وجد المعنيون بهذه الفضاءات أنفسهم أمام منافسة بعضهم البعض، الأمر الذي حتم شرط التميز من أجل جلب أكبر عدد من الزبناء، ما أدى بدوره إلى ظهور مقاه وإن اختلفت في طريقة عرضها لخدماتها، توحدت في حملها للقب »خمسة نجوم«
أحيانا لا تهم قيمة المقابل الذي نؤديه، إذا كانت الغاية هي البحث عن الراحة النفسية، لذلك لا أجد حرجا في دفع 30 درهما بغية قضاء ساعة أو نصفها بعيدا عن روتين العمل والبيت«، يقول أحد رواد مقهى فاخرة بمدينة الدار البيضاء، وهو يشرح دواعي إقباله اليومي على ذلك الفضاء، حتى وإن اضطرته هذه العادة إلى ركوب الحافلة بدل سيارة الأجرة، لتوفير واجب قهوة سوداء، ويضيف هذا الشاب الذي تجاوز سن الثلاثين بعامين، أن مثل هذه المقاهي، بصرف النظر عن الأجواء الساحرة التي تتيحها، تعتبر فرصة للقاء شخصيات ذات سمعة طيبة، سواء في المجال الثقافي أو الرياضي أو السياسي
ويوضح عدنان بعد أن أطبق جريدة باللغة الفرنسية كانت بيده »يقول المثل، إن كل ما هو كثير يعتبر معاديا للطبيعة، لذلك وأمام الكم الهائل للمقاهي العادية حتى في الأزقة، كان لابد من البحث عن مكان أحس فيه بشيء إضافي، قد يعوضني الطاقة التي أفتقدها طيلة اليوم، ولا أخفي بكوني أشبه الأوقات التي أقضيها هنا بجلسات الطب النفسي، نظرا للتحول الذي أستشعره بين اللحظة التي تسبق مجيئي وموعد مغادرتي«
وبالفضاء نفسه، التقينا منصف البالغ 27 سنة رفقة خطيبته، بعدما اختارا مكانا منزويا في الركن الأيمن للمقهى، وحتى لا نقطع شريط حديثهما الذي بدا في غاية الجدية، انتظرنا حوالي النصف ساعة لنرصد تأدية منصف لسبعين درهما مقابل عصيرين، قدما لهما في كأسين على قمتهما قشدة مزينة ببعض قطع الفواكه، كما أنه، وحسب ما قاله لنا، لا يمكن أن يؤدي للنادل أقل من خمسة دراهم، لتضاف هي الأخرى إلى القيمة الإجمالية التي كلفتها تلك الجلسة
وارتباطا بحجم هذه المصاريف، اعترفت نسرين، خطيبة منصف، بموافقتها على القدوم لمثل هذه المقاهي فقط في الفترة الممهدة للزواج، على أساس ألا تقبل بذلك بعده، وإلا، طبقا لما صرحت به، لن يكون باستطاعتهما إضافة أية قطعة أثاث إلى البيت، فبالأحرى إتمام تأدية أقساط الشقة التي تلزم خطيبها دفع مبلغ 1200 درهم شهريا
ورغم هذا الموقف المتشدد نسبيا لنسرين، إلا أنها لم تقو على كبت انبهارها بالدقة التي تسير بها المقهى، بما في ذلك السرعة في تنفيذ الطلبات والجودة العالية لمختلف المشروبات، ناهيك عن طبيعة الأشخاص الذين يؤمون إلى هناك، هذا في الوقت الذي استحسنت فيه غياب التلفاز واقتصار المسير على الاختيار الموفق للمقاطع الموسيقية
ولم تكن نسرين التي تشتغل محاسبة في شركة خاصة، الوحيدة التي تولي اهتماما للموسيقى في المقهى، وإنما العديد من الأفراد الذين يلعب التنشيط الموسيقي دورا كبيرا في جذبهم إلى هذه الفضاءات، كما هو الحال بالنسبة إلى عبد اللطيف الذي يحس وكأنه يفتقد شيئا ما إذا قضى اليوم دون أن يستمع لأحد العازفين على البيانو بمقهى تابع لفندق فاخر، لدرجة وصف فيها حالته بالإدمان على »ميسيو ألان«، وهو »البيانيست« المعجب به عبد اللطيف
يحتاج هذا الرجل إلى 55 درهما عند كل مجيء إلى تلك المقهى، ليستمع إلى أشهر المقاطع الموسيقية العالمية، ويحمد الله، كما قال بصيغة ساخرة »حيث ما كايناش الغرامة«، أما المدة التي يقضيها فلا تتجاوز الساعة، نظرا لموازاة الساعة السابعة، والتي غالبا ما ينسحب أثناءها، مع مجيء نزلاء الفندق، مما يفسد، حسب قوله، ذلك السكون الرومانسي الذي أتى من أجله، ويستطرد عبد اللطيف، أستاذ »تظل مسألة فتح مقاهي الفنادق في وجه العموم أمرا محبذا، لذلك أرى بأن من حق النزلاء أيضا، ألا يحسوا بأي مضايقة من الزبناء الخارجين عن النزل، خاصة وأنهم يكونون في غالب الأحيان على شكل مجموعات«
وغير بعيد عن هذا الفندق، أثار انتباهنا لباس مميز لنوادل مقهى، شبيه بالزي الخاص برجال الفضاء، وبمجرد أن اقتربنا من رئيسهم، اعتقدنا أنه يكلم نفسه، قبل أن نتأكد من أن لديه جهاز اتصال لاسلكي صغيرا جدا، يتحدث من خلاله مع جميع المشرف عليهم، سواء من نوادل، أغلبهم فتيات، أو المكلف بتحضير الطلبات قبل توزيعها
وأرجع محمد، مسير المقهى، سبب استخدام تكنولوجية هذه التقنية المتطورة، إلى الرغبة في استغلال الوقت في العمل الفعلي، إذ بدل أن يقطع النادل مسافة كبيرة، نظرا لشساعة المقهى، من أجل إخبار المشرف على منضدة الشرب برغبات الزبائن، يتحدث معه عن بعد عبر اللاسلكي، يقول محمد »الوقت الذي من الممكن أن يحتكره مسير النادل إلى الكونطوار، يستغله المكلف بهذا الأخير في تجهيز الطلبات، وعندما يصل السيرفور إلى »الكونطوار« يجد المشروبات جاهزة، وفي ذلك توفير نحو نصف المدة التي كانت تتطلبها العملية المتداولة في جل المقاهي«
وقالت منى، 36 سنة، عن هذه الخدمة، إنه إلى جانب الحديث عن السرعة التي توزع بها الطلبات، بفعل طريقة التواصل عن بعد، أريد الإشارة إلى الشكل الأنيق الذي يبدو به النوادل والنادلات، إذ يكفي أن تركز انتباهك عليهم وفي طريقة عملهم لتمضي وقتا ممتعا«، واستطردت منى، لن أكون مبالغة، إذا أكدت أن الاستئناس بهذه الأجواء يستحق أن نضحي بأربعين درهما كمقابل، وزادت مؤكدة أتحدث بطبيعة الحال عن القادرين على تأدية هذا الواجب من الميسورين، ولا أعني بقولي أني لاباس علي، إنما لست مواظبة على المجيء بشكل يومي، لأنني وبكل صراحة لن أستطيع، مهما اجتهدت في تدبير أجرتي التي لا تتعدى 4000 درهم
وبالعودة إلى محمد، أكد لنا أن الإقبال يكون مكثفا بعد الساعة الخامسة، في الأيام الممتدة من الاثنين إلى الجمعة، أما يومي السبت والأحد فالتوافد على المقهى لا يتوقف بوتيرة سريعة منذ الصباح، مع تدني نسبي وقت الظهيرة، قبل أن يعاود الارتفاع ابتداء من الساعة الثانية بعد الزوال
أما المستويات الاجتماعية لهؤلاء الوافدين، فلم يستطع، مسير المقهى محمد، الحسم في تصنيفهم، طالما، كما قال، يتعذر الحكم على الأشخاص من منطلق مظهرهم، إذ كم من مستخدم عاد يبدو وكأنه مدير شركة، خاصة إذا خصص يومين في الشهر لدعوة خطيبته أو صديقته، وأبدى سخاء في نوعية الطلبات وفي الحلوان المقدم للنادل
وفي الوقت الذي استحال علينا مقابلة صاحب المقهى، من أجل استفساره عن سبب هذه الأثمنة المرتفعة، وعلاقتها بما كلفه بناء وتجهيز المقهى، اضطررنا إلى سؤال أحد النائبين عنه، الذي شدد على ضرورة استبعاد فكرة الربح الكبير لمالكي مثل هذه الفضاءات، على اعتبار أن مصاريف مهمة توجه إلى تأدية الضرائب وواجبات الماء والكهرباء وأجور العاملين، ناهيك عن الخسائر والأضرار التي تحدث بشكل يومي تقريبا، تبقى فقط الرغبة في إضافة شيء جديد وراق لهذا النوع من الخدمات ببلادنا، يؤكد المتحدث، الخلفية وراء استمرار العمل في هذا الاتجاه
غادرنا هذه المقهى في حدود الساعة الثامنة إلا الربع مساء، تاركين روادها يكاد بعضهم لا يرى الآخر لخفوت الضوء الكهربائي، بل انعدامه في بعض الأركان، ملقيا بمهمة الإضاءة على شموع شاعرية مغطاة بكساء زجاجي أحمر، وكل هذا بمصاحبة عازف كمان ينتقل من مائدة إلى أخرى، وهو يعزف المقدمات الموسيقية للأغاني الكلاسيكية، سواء لأم كلثوم أو محمد عبد الوهاب أو وردة، وإن كان أحد المولعين بأغاني الستينات المغربية، على ما يبدو، طلب الاستماع إلى لحن قطعة »يا الناسي« مقابل 100 درهم زرعها في الجيب الأمامي لسترة الكمنجي