آراء المختصين

فضائح تزييف الأبحاث والدراسات الطبية

الثلاثاء 31 يناير 2006 - 15:03
جدل حول دراسة علمية

عادت قضية "فبركة" نتائج الأبحاث الطبية، للظهور على السطح مرة أخرى هذا الأسبوع، بعد تواتر أنباء من النرويج عن تزييف نتائج دراسة تبحث في العلاقة بين سرطان الفم وبين تعاطي مسكنات الآلام.

الدراسة نشرت نتائجها في شهر أكتوبر الماضي، في المجلة الطبية البريطانية المرموقة "اللانسـت" The Lancet، والتي تعتبر واحدة من أشهر الدوريات الطبية في العالم على الإطلاق، كان قد أجراها الدكتور "جون سدبو" Jon Sadbo خبير طب السرطان والعلاج الإشعاعي في "مستشفى راديوم" Radium Hospital في العاصمة النرويجية أوسلو.

وكان الدكتور "سدبو" خلص في دراسته تلك، إلى أن استخدام مسكنات الآلام غير الاسترويدية لفترات طويلة، من شأنه أن يقلل من احتمالات الإصابة بسرطان الفم، حتى بين المدخنين، وإن كان يمكن في نفس الوقت أن يزيد من احتمالات الوفاة نتيجة الإصابة بأمراض القلب والشرايين، هذه النتيجة كان يمكن أن تترجم في الواقع الطبي اليومي، إلى نصيحة تشجع المدخنين على تعاطي مسكنات الآلام غير الاسترويدية كوسيلة سهلة ورخيصة للوقاية من سرطان الفم، والذي تزيد معدلاته بشكل واضح بين المدخنين مقارنة بغير المدخنين.

وفي الوقت نفسه، كان أطباء القلب سينصحون مرضاهم بتجنب هذه المسكنات، لما يمكن أن تسببه من مضاعفات وتأثيرات سلبية، ولكن لحسن الحظ، قام زملاء الدكتور "سدبو" ومساعده بإطلاق صفارة الإنذار، مؤكدين أن هذه النتائج غير صحيحة ومزيفة بنسبة 100٪، وعند قيام المستشفى بإجراء تحقيق داخلي، اكتشف المحققون أن "سدبو" قام ليس فقط باختراع النتائج وإدخالها على كمبيوتره الشخصي في غفلة من الآخرين، بل إن الكثير من المرضى الذين أجريت عليهم الدراسة لا وجود لهم أساساً.

وحسب ما نشرته إحدى الصحف المحلية، فإن 250 من المرضى المدرجين في الدراسة لهم تاريخ الميلاد نفسه، مما يعني أن الدكتور "سدبو" لم يكلف نفسه حتى عناء منح مرضاه الوهميين تواريخ ميلاد مختلفة، وتأتي هذه الفضيحة بعد أيام قليلة من فضيحة طبية أخرى امتلأت بتفاصيلها وسائل الإعلام الدولية، وكان بطلها بروفيسور كوري هو وانج ووسك Hwang Woo-suk .

وما حدث في الفضيحة الكورية، هو الادعاء بتحقيق إنجازين معمليين، كان من شأنهما لو صحا أن يحدثا ثورة في عالم أبحاث الخلايا الجذعية، الادعاء الأول للفريق الكوري، تمثل في إعلانه عن تمكنه من إنتاج خلايا جذعية شخصية، أي تتطابق وتتماثل في مكوناتها الوراثية مع شخص محدد بعينه، الادعاء الثاني، وربما الأخطر، هو ادعاؤه الحصول على خلايا جذعية من بين خلايا جنين بشري مستنسخ.

وبغض النظر عن الأهمية العلمية البالغة لهذه الادعاءات، ثبت للأسف، أن النتائج والصور والخلايا والبيانات كانت جميعها مزيفة، هذا بعد أن أصبح بروفيسور "وانج" بطلا قوميا في كوريا، وبعد أن تلقى هو وفريقه دعما ماليا تعدت قيمته الخمسين مليون دولار، من الجهات الحكومية ومن مؤسسات القطاع الخاص، وهذه الحقيقة، لن تجعل "وانج" وزملاءه يساءلون فقط من قبل الجهات المعنية بمكافحة التزييف والكذب العلمي، بل ستجعلهم أيضا يقعون تحت طائلة قوانين الاختلاس والنصب المالي.

ولكي ندرك فداحة مثل هذه الفضائح العلمية، ودرجة تأثيراتها السلبية على المجتمع العلمي كله، يجب أن نستعرض هنا الأطراف المتضررة من جميع الجوانب، فبداية هناك الزملاء والعلماء الذين شاركوا في هذه الدراسات، وتضمنت المقالات المنشورة أسماءهم وأماكن عملهم، هؤلاء سوف ينظر لأبحاثهم ودراساتهم المستقبلية بنظرة من الشك والريبة، بما في ذلك أيضا أعمالهم السابقة وما نشر لهم من قبل، حتى دون أن تكون لهم يد في عملية التزوير والفبركة.

وينطبق نفس الكلام على المراكز العلمية التي ارتكبت فيها هذه الجرائم، مثل "مستشفى راديوم" في النرويج في الحالة الأولى، و"جامعة سيئول الوطنية" في الحالة الثانية.

فالدراسات والنتائج التي ستخرج مستقبلا من هذين الصرحين العلميين، لن تحمل نفس الوزن الذي كانت تتمتع به سابقا، وهناك أيضا الأطباء وبقية العاملين في الحقل الطبي، والذين يعتمدون بشكل كبير على الدراسات والأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الطبية والعلمية، لتحديث معلوماتهم والوقوف على آخر ما توصلت إليه العلوم الطبية، كي يطبقوها علــى مرضاهم في ممارساتهــم العلاجية اليومية، وهناك طبعا المرضى، الذين يصبحون الضحية الأكبر والمتضرر الأعظم من حالات الكذب والتزييف العلمي.

فالحقيقة اليومية المؤكدة، أننا جميعا نتبع الإرشادات والنصائح العلمية، المتعلقة بالحفاظ على صحتنا أو الهادفة لعلاجنا من مرض ما، والمبنية جميعها على البحوث والدراسات، بشكل يميزه السمع والطاعة ولا يقبل الجدل والنقاش دائما، وهذه الثقة شبه العمياء في ما يوفره لنا الطب الحديث من إرشادات ومعلومات، يمكن أن تتزعزع من أساسها لتتابع وتكرار الفضائح العلمية.

وهذا الوضع المؤسف، عبر عنه رئيس تحرير "اللانست" أخيرا، بعد تواتر الأخبار عن زيف الدراسة النرويجية المنشورة في مجلته، قائلا "إن عملية تدقيق الزملاء فعالة جدا، في كشف عيوب التصميم والتنفيذ في الدراسات، ولكنها ليست معنية بالكشف عن الأبحاث المزيفة، فكما لا يمكن في المجتمعات البشرية استئصال الجريمة تماما، لا يمكن أيضا في المجتمعات العلمية استئصال الفبركة والتزوير تماما".




تابعونا على فيسبوك