المفكر بول عودي في إصدار جديد :

ما بين فعل الإبداع والسلوك الأخلاقي

السبت 14 يناير 2006 - 12:26
بول عودي

غالباً ما يرتكز الجهد الفكري على الحدس والتلمّس والبحث المتردد ومع أن المفكّر لا يملك دائماً صورة واضحة ودقيقة عن الوضع الذي هو فيه أو عن السبيل الذي يسلكه، تشهد المواضيع التي يختارها والحماسة الذي تقوده على نوع من اليقين داخله
وينطبق هذا التشخيص بشك

فمنذ عام 1994، أصدر ما لا يقل عن ثلاثة عشر كتابا فلسفيا ونقديا، الى جانب مجموعة كبيرة من المقالات والدراسات التي نُشرت في أبرز المجلات الفكرية.

ويصعب على قارئ هذه الكتابات الغزيرة والمتنوعة تحديد قاسمٍ مشتركٍ لها، وإن تميّزت جميعها بتوتر محمومٍ ومشاغل يلتقي فيها الإبداع الفني وحياة الجسد، الأخلاق والعاطفة، هاجس ترسيخ الفكر في الملموس والإصغاء الى تطلّب يتخطى حدود الذات.

فما هي علاقة جان جاك روسو الذي كان موضوع أطروحته، بسائر المبدعين الذين قاربهم بالتعاقب في كتبه، مثل بيكاسو ومالارمي وكافكا ونيتشه وفيتغنشتاين وشوبنهاور وديكارت؟ يجيب عودي : "ما يهمني لدى هؤلاء الكتّاب الفريدين هو انعدام طمأنينتهم وشعورهم بواقعنا الحميمي الممزّق بين حب الذات واليأس.

فانعدام الطمأنينة هذه لم تمنعهم من إرادة تحويل حياتهم الى شيءٍ آخر وأسمى مما هي عليه في الواقع وبهذه الإرادة، بلغوا نوعاً من المتعة غير المحدودة التي أرغب في كشف أسرارها فلسفياً".

ولإدراك معنى وشروط هذه المتعة يجب قراءة كتابه الأخير الصادر عن دار "أنكر مارين" الفرنسية تحت عنوان "خلق" والذي يُشكّل في الوقت ذاته محطة أساسية لبلوغ الوحدة العميقة لكتاباته السابقة التي تتلاقى جميعها حول نظريته "الجمالية ـ الأخلاقية" والفكرة المركزية لهذه النظرية هي أن فعل الإبداع والسلوك الأخلاقي لا يشكّلان في العمق إلا حركة واحدة تنبع من الحياة نفسها وتتجاوزها في نهاية المطاف.

وبالتالي، لا يمكن اختزال فعل الخلق بنتاجه فقط لتوقه خاصة الى "تحرير طاقات حياة" تنمّي قدراتنا الحسية ولذة العيش.

ومن هذا المنطلق، لا تتأمّل هذه الدراسة في الشروط الثقافية أو التاريخية أو المادية للإبداع ولا في المحددات النفسية والجسدية للمبدع، بل تركّز على مفهوم "الخلق" كتطلّب فردي للعيش بتناغم مع الحياة.

ويعرض عودي في القسم الأول من كتابه رهانات نظريته الجمالية ـ الأخلاقية التي تتفحص واقع الإبداع البشري، ويتساءل حول مدى مساهمة الفن والفكر في سعادة الإنسان وفي الحد من يأسه.

ففعل الخلق بالنسبة إليه هو توقٌ الى تجاوز ضعفنا، أو تلك الصعوبة في أن نكون ذاتنا التي تمهّد الى انقلاب ضد الذات.

من هنا البعد الأخلاقي لفعل الخلق الذي يدفعنا الى مضارعة محدوديتنا وإلى ابتكار الشروط الحياتية الوحيدة التي يمكن أن نقبل بها .

الأمر الذي يحوّل الإبداع الى شعار للمقاومين الذين يرفضون "التواطؤ" مع ما هو مرعِب في الوجود والانهيار داخله، مع العلم أنهم الأكثر تنبهاً لهذا الانهيار .

ومع علمه أن المأساة مستحيلة، مذكراً في هذا السياق بقول بودلير الشهير : "أنا الجرح والسكين"، يرفض عودي الاصطفاف وراء نيتشه وتحديده للفرد انطلاقاً من "إرادة القوة"، ويقترح، بعد برهنة منطقية ومثيرة، "إرادة خلق" لدى الفرد تحاول ترميم المعنى والعبقرية في ظل الكآبة.

ويضبط عودي القلق كمصدر للخلق، ويتأمل الخلق كحدث يمنح الحياة معنى وطاقة
ولهذا نجده يميّز بين الفنانين الكثيرين الذين هم مجرّد منتجين لأعمال، والمبدعين الذين وحدهم يفتحون للحياة آفاقاً وإمكانيات جديدة.

ومن هذا المنظار، يبدو الإبداع كمفهومٍ يطغى عليه البعد الأخلاقي أكثر من البعد الجمالي وبالفعل، تُخرج نظرية عودي الفن من دائرة العمل الفني لتنكب على أسباب النشاط الإبداعي ونتائجه.

أكثر من ذلك، ينتقد الفيلسوف المقاربة الجمالية للإبداع التي ترى إما كائناً يخلق ما يريده وإما كائناً يخلق ما تمليه عليه ظروفه.

فبالنسبة إليه، تُبدِع "الأنا" حين تكون مجرّدة من أي سيطرة على ذاتها : تجبرها الذات le Soi عندئذ على اعتماد الخلق لتوسيع نطاق حياتهاوهذا ما يُحوّل حتى اليأس الى طاقة محرّكة.

وفي السياق ذاته، يعتبر عودي أيضاً أن الانقلاب الحقيقي على فلسفة أفلاطون الذي بدأه نيتشه لا يكمن في تأكيد نسبية جميع الحقائق فحسب وإنما في التصوّر الذي يرى أنه لا صحة لحقيقةٍ ما إلا بمقدار ما تكون موضوع خلق.

في القسم الثاني من كتابه، يمعن الفيلسوف اللبناني في تحليل كتاب الشاعر الفرنسي مالارمي، "رمية نرد"، وبالتحديد البيت الشعري الأخير : "كل فكرة هي رمية نرد"، كمادة خصبة بامتياز لبلوغ مصدر الإبداع وتحديد مميزات الروح المبدعة بدقة
ومن خلال هذا التحليل، يهدف عودي بالدرجة الأولى الى محاصرة الفكر الذي ينبثق، وفقاً إليه، من حافز أعمى أو من "ضرورة غرائزية"، ولا يتحقق إبداعه إلا تحت تأثير انحراف ما وانطلاقاً "من عُمقِ غرقٍ".

فلا فكرة قادرة على فتح سبيل نحو المطلق, والمطلق الوحيد الذي يمكن بلوغه هو ذلك القلق الذي يعيشه المبدع خلال عملية الخلق.

من مواليد بيروت 1963، عاش عودي تمزّقات الحرب اللبنانية قبل أن يختبر المنفى وطعم اليأس, ومع أنه يرفض التحدّث أو الكتابة عن هذا الماضي لعدم التئام بعض الجروح، إلا أنه يذكر دائماً جملة جان جاك روسو التي دفعته نحو الفلسفة : "ها أنا وحيد على الأرض، لا أخ لي ولا قريب ولا صديق ولا مجتمع إلا ذاتي".

ولعل هذا ما يشرح طبيعة مساره الذي يتخلله قطيعات عديدة غايتها المحافظة على مسافة بينه وبين الآخرين فبعد أن اختبر التعليم، غادر الجامعة ليصبح مستشاراً في ميدان النشر .

وبعد سنوات عديدة من العمل كمدير لسلسلة "آفاق نقدية" لدى دار "المنشورات الجامعية الفرنسية" PUF العريقة، استقال ليتفرغ بشكل كامل للكتابة، ومنذ فترة، بدأ هذا المفكر النشيط والمنعزل ينال ما يستحقه من اهتمام وتقدير من قبل كبار المفكرين والجامعيين في فرنسا ولكن أيضاً في الولايات المتحدة وكندا وإسبانيا وهولندا
فمتى ينتبه عالمنا العربي إليه؟ .




تابعونا على فيسبوك