مخطوط فاز عنه محققه بجائزة إماراتية رفيعة

الرحلة التتويجية إلى عاصمة البلاد الإنجليزية

السبت 28 يناير 2006 - 12:01

ضمن سلسلة "ارتياد الآفاق" التي تنشرها دار السويدي للنشر والتوزيع بالإمارات العربية المتحدة، صدر كتاب يحمل عنوان "الرحلة التتويجية إلى عاصمة البلاد الإنجليزية" لمؤلفه الحسن بن محمد الغسّال.

والفضل في ظهور هذا الكتاب ووصوله إلى يدي قارئ العربية المعاصر، يعود للأديب والناقد المغربي الدكتور عبد الرحيم مودن، الذي قام بتحقيق المؤلَّف وتقديمه، فاستحق على ذلك "جائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي" برسم سنة 2003، وهي الجائزة التي تمنحها دار السويدي، سنويا، لأفضل الأعمال المحققة في أدب الرحلة والمؤلفات الجغرافية العربية والإسلامية، قديما ووسيطا وحديثا، ولأفضل كتاب جديد في أدب الرحلة المعاصرة.

من يكون صاحب هذه الرحلة؟ يعرّفه الدكتور مودن بأنه ينتمي إلى أسرة كانت لصيقة بالسلطة المخزنية في المغرب، أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، مرحلة تميزت باشتداد الصراع بين البلدان الاستعمارية الأوروبية من أجل بسط السيطرة على المغرب.

ويشير صاحب التحقيق إلى أن الحسن بن محمد الغسّال كان يمارس نشاطا دبلوماسيا واسعا، منذ أيام السلطان مولاي عبد العزيز إلى عشرينيات القرن الماضي، تجلى بالخصوص في المحطات الرئيسية التالية : ـ حضور الغسال مؤتمر المندوبين بالدار البيضاء، بغية إيجاد حل للمطالب الأوروبية الصاعدة؛ ـ تمثيله للسلطة المخزنية ـ وهذا هو موضوع الكتاب ـ في احتفالات تنصيب أو تتويج "إدوارد السابع" ملك "إنجلترا" سنة 1902 1320 هـ؛ ـ مرافقته للسفير المغربي آنذاك المتوجه نحو جبل طارق لملاقاة العاهل البريطاني إدوارد السابع أثناء زيارته لهذه المستعمرة الاستراتيجية؛ ـ تعيينه من لدن السلطان مولاي عبد العزيز في مجلس الأعيان، لمحاورة السفير الفرنسي وبرنامجه المقترح لإنجاز "إصلاحات تحديثية معينة لأهداف واضحة" .

ـ تعيينه كاتبا في لجنة التعويضات بعد انتفاضة الدار البيضاء سنة 1906، زمن السلطان مولاي عبد الحفيظ؛ ـ ارتباطه بأحداث كبرى، من خلال تمثيله للسلطة المركزية عبر وفود أو لجان مختصة كلجنة دراسة قضايا الحدود المغربية الجزائرية، ولجنة الاطلاع على ديون الأجانب أو "دار النيابة"، ولجنة المنازعات بين السكان المغاربة والمعمرين الأجانب.

وكما جاء في التقديم، فإن ميلاد الغسال كان بمدينة طنجة، في حين سلم الروح لبارئها بمدينة مراكش التي كان يسافر إليها بين الفينة والأخرى، وعنها دوّن كتابه "الرحلة المراكشية" الذي يعكس ارتباطه بهذه المدينة وأهلها الذين جمعتهم به صداقات روحية وفكرية عديدة.


ويتوقف الدكتور مودن عند وصف المخطوط، فيقول إنه يحمل عنوانا دالا على موضوعه المركزي المتمثل في تقديم المستحدثات لمتلقٍ رئيسي، هو السلطة المخزنية، ثم تأتي عينة أخرى من المتلقين هي النخبة المؤثرة في المسار العام للدولة من فقهاء وكتاب دواوين وعلماء وأدباء ورجال سلطة وما تبقى من مبعوثين سابقين إلى الدول الأوروبية.

ويشير مودن إلى أن النص نشر مترجما إلى اللغة الفرنسية في بداية القرن العشرين، ونشر باللغة العربية سنة 1979 من لدن الأستاذ عبد الهادي التازي بمجلة "البحث العلمي"، لكن التازي لم يرفق بالنص سوى إشارات وإضاءات عامة وقليلة جدا، دون أن يعمل على تحقيقه، وهي المهمة التي أناط مودن بها أحد طلبته في قسم الإجازة
وعند تحليل مميزات رحلة الغسال وأبعادها ودلالاتها، يوضح المؤلف أن النص ـ على غرار بقية النصوص المغربية المتجهة نحو الآخر أو الأجنبي في القرن 19 وبداية القرن العشرين ـ خضع لإكراه مركزي ساد هذه المرحلة، مجسدا في حدّي الانفتاح والانغلاق، ذلك أن السلطة المخزنية تأرجحت بين الرغبة في معرفة الخارج والرغبة في الحفاظ على استقلال البلاد.

ويلاحظ أن النخبة تعاملت مع الحداثة من خلال الغرب الغازي، وانقسمت ـ نتيجة لذلك ـ إلى فئتين: فئة محافظة ترى في الحداثة مرادفا للكفر والفساد، وفئة متفتحة ترى في الخارج ـ بشكل مباشر أو غير مباشر ـ مكانا للاستفادة.

ويستخلص من خلال هذين الأسلوبين حضور أسئلة التحديث لدى الرحالة المغربي، سواء رغب في ذلك أم لم يرغب؛ بل إن التيار المحافظ أو الرافض لهذه الحداثة أحس بوطأتها أو زحفها المتواصل على العالم، فرصد التجربة من موقع سلبي لم يلغ الحداثة التي انتشرت بالرغم الجميع.

كما يلاحظ أن العلاقة بين الأسلوبين المشار إليهما لم تكن علاقة قطيعة مطلقة، بل كانت المسافة بين المحافظة والتجديد تضيق أحيانا وتتسع أحيانا أخرى، فوجدنا في كثير من الأحيان الحداثة المحافظة والمحافظة التحديثية أيضا.

ويؤكد الدكتور مودن أن نص الغسال الذي اتجه فيه إلى إنجلترا من أهم النصوص الداعية إلى التحديث بأسلوب يتقاطع مع نصوص الحداثة أواخر القرن التاسع عشر ويوازيها في آن واحد، بأسلوب محايد لم يتردد ـ بين الحين والآخر ـ في تثمين الكثير من المنجزات
ويؤكد المحقق أن الغسال تحرر من الأحكام المسبقة التي تحكمت في غيره من رحالة تلك الفترة، فلا وجود لديه ذلك التعارض الشهير بين "دار الكفر" و"دار الإسلام" بالرغم من الأجواء المتوترة والمهيمنة على علاقة المغرب بغيره من الدول الأوروبية آنذاك، فهذا الرحالة يصف ـ دون أن يخفي إعجابه بهذا العالم ـ من موقع ممثل رسمي لدولة لها كيان وتاريخ، كما التفت إلى بعض عناصر القوة في التجربة الأوروبية والتي لم تحظ بالاهتمام لدى باقي الرحالة، كحديثه عن التجربة البرلمانية في بريطانيا، وإشارته الذكية إلى قوة انجلترا الاقتصادية المرتبطة بـ "مستعمراتها"، وحرصه على تقديم التاريخ الميلادي بجانب التاريخ الهجري الذي كان سائدا عن معظم الرحالة، وهو ـ بحسب المحقق ـ مؤشر على تحول التاريخ لصالح الآخر (الغرب أو أوروبا).

ثم تطرق إلى أقسام "الرحلة التتويجية"، وذلك على النحو التالي : 1 ـ الغرض من الرحلة مع تعريف موجز بالوفد الرسمي للرحلة من سفير وكاتب وأمين.
2 ـ ركوب البحر وملابساته البروتوكولية، دون نسيان وصف السفينة ومكوناتها وخطها العام الذي سلكته قبل الوصول إلى إنجلترا.
3 ـ الوصول إلى بلاد الانجليز وتفصيل القول في مختلف مظاهرها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والترفيهية والعسكرية.
4 ـ العودة إلى المغرب والوصول إلى طنجة، بعد المرور بجبل طارق

ويرى الدكتور مودن أن دعوة الغسال ـ وغيره من الرحالة ـ إلى تحديث البنيات الاقتصادية والإدارية والاجتماعية في المغرب واجهتها إكراهات أساسية، من بينها أن تلك الدعوة جاءت من موقع ضعف الدولة وتفككها عوض أن يكون منطلقا من موقع قوة وتماسك، علاوة على كون العديد من الرحالة المغاربة ـ ومن ضمنهم الغسال ـ ظلوا خاضعين لمرجعيتهم التقليدية ثقافيا، دون أن يمنع ذلك من وجود حالات تفاوت بين هذا الرحال أو ذاك ولكن، في كل الأحوال، لم يتسم الرحالة المغربي بالجرأة في دعوته الحداثية. بل ظل مشدودا إلى مرجعيته التقليدية من جهة، وعيون النخبة المحافظة التي لا تنام من جهة ثانية.


أما ما ميّز الغسال عن معاصريه من الرحالة المغاربة، فهو ـ كما يقول المحقق ـ التزامه الحياد في عرضه للمستحدثات دون إصدار أحكام قيمة، ولا أثر للهجاء أو النقد اللاذع لمظاهر الغرابة في المجتمع الأوروبي، وابتعاده عن الجانب الديني الذي شكل محط رفض وإدانة من لدن العديد من الرحالة، ولعل ذلك يرجع إلى تفضيله للجانب العملي أو النفعي في الحداثة، وإعجابه الرصين بالمظاهر العجيبة والغريبة في هذا المجتمع، مع الإصرار المتواصل من قبل الرحالة على الفهم والتفسير والتأويل.

ويخلص الدكتور مودن إلى القول إن الغسال استطاع امتلاك رؤية معينة لـ "الآخر" بعيدة عن الانبهار الساذج أحيانا، أو الرفض المطلق أو القبول النهائي أحيانا أخرى
وهو في رحلته يقدم ما يراه بنوع من الرصد الموضوعي الذي لا يفرض التموقع لصالح جهة ما، علما أن زمن الرحلة كان يفرض الاعتراف بالقوانين الجديدة المتحكمة في العالم.




تابعونا على فيسبوك