في الطابق الحادي عشر لنادي الصحافة الدولي بواشنطن، يدير طلحة جبريل رفقة فريق صغير مكتب جريدة الشرق الأوسط الدولية، استضافني في عشاء بالنادي الذي يقيم فيه رؤساء دول العالم ندواتهم الصحافية عندما يزورون عاصمة العالم.
طلحة يجلس على طاولة هادئة بنادي الصحافيين المعتمة بعض جنباته بدخان السجائر في بلد سيعاني فيه المدخنون المغاربة من صعوبات جمة. لم يخف الصحافي السوداني الطريقة التي قرر بها أن يغادر بلدا كالمغرب الذي دخله شتاء عام 1975 وعاش بين ناسه مدة 30 سنة مراكما تجربة مهنية لافتة، متتبعا ومتابعا شؤون المغرب الداخلية وأحداثا في الوطن العربي والعالم، مر من "العلم" أسس بمعية آخرين "الصباح"، وبعدها "الجمهور" وعاد إلى "الشرق الأوسط" السعودية وعمل كائنا سيبرنيتكيا في "إيلاف" عثمان العمير.
باح طلحة بأسرار صغيرة متحدثا لغة شخص يحمل جرحا لم يندمل بعد، وقال "غادرت المغرب لأنه لم يبق لي فيه مكان. لم أكن أتصور لي عملا في بلد آخر أو حتى قبرا خارج المغرب"، قبل أن يضيف "أما الحزن لأنني غادرت المغرب فلا حدود له، وفعلا ما أضيق الكلمات وما أوسع الحزن" .
ـ غادرت المغرب لأنه لم يبق لي فيه مكان. هكذا ببساطة. حقيقة لم أكن أتصور لي عملاً في بلد آخر أو حتى قبراً خارج المغرب.
قررت أن أغادر حين ضاق بي الحال، فكرت في عدة اختيارات، لكن صحيفة "الشرق الأوسط" اقترحت علي الانضمام إليها من جديد في مهمة لتدريب مجموعة صغيرة للعمل في موقعها على شبكة الانترنيت، وقالوا لي سنرى بعدها. هذه صحيفة تعرفني وأعرفها، لذلك لم أتردد وكانوا كرماء معي.
طلبوا مني الانتقال إلى لندن لإطلاق طبعة خاصة بالمغرب العربي وفعلت. اقترحوا علي العمل مديراً لمكتب الصحيفة في واشنطن فرحبت.
في كل المؤسسات التي عملت بها لم يحدث أن تطرقت إطلاقاً للجوانب المادية، كنت أقول دائماً إن العمل هو الذي يحدد الأجر، وليس الأجر هو الذي يحدد العمل. أما العمل من واشنطن فلا شك أنها تجربة مثيرة.
هنا وجدتني أركض وراء الأخبار في الشارع وألقي المحاضرات في الجامعات ومراكز الأبحاث. هذا وضع يروقني تماماً.
ـ خلال فترة في حدود أربع سنوات من عام 1998 وحتى عام 2002، توليت رئاسة تحرير أربع يوميات مغربية، اثنتان منهما أسستهما شخصياً، أظن أنها تجربة غير مسبوقة ليس في المغرب بل في العالم العربي.
ألا تستحق هذه التجربة التدوين؟ عنوان الكتاب لا يمكن أن يفهم حتى يقرأ المحتوى
هناك من عملوا معي بإخلاص في هذه التجارب ألا يستحقون أن أكتب عنهم؟ المهم أنني كتبت الأشياء كما حدثت في مكانها وكما سمعتها في زمانها. وإذا كانت الوقائع ستحرج فلاناً أو ستزعج علاناً، فهذا شأنهم .
سأقول ما حدث، وما يهمني أن لا يأتي أحد ويقول بأن هذه الواقعة ليست صحيحة
مشكلتي مع بعض الناس ومشكلة بعض الناس معي أنني لا أعتمد على الذاكرة، بل على الوثائق والأوراق وعلى شهود أحياء يمشون على الأرض.
ـ لست إقليميا ولا يمكن أن أكون. إيماني بأننا أمة واحدة لا يتزعزع، أنا أنتمي للأمة العربية في صيرورتها وكمجموعة قيم ثقافية وليس فقط انتماءً عرقياً.
أحمل جوازاً سودانياً لأسباب لها علاقة بالسودان وليس المغرب. لم أتقدم "بطلب" للحصول على جواز مغربي لأن المشكلة أنني لا أقبل من حيث المبدأ أن أتقدم "بطلب" للحصول على أي شيء، لا وظيفة ولا موقع ولا منفعة.
الجواز السوداني يعرضني لإشكالات لا حد لها لكن أنا راض به وهو راض بي، أما الحزن لأنني غادرت المغرب فلا حدود له، وفعلاً ما أضيق الكلمات وما أوسع الحزن. حزن مغادرة المغرب في دواخلي لا أداريه ولا أخفيه.
30 سنة من الزمان والمكان ثم تكتشف أنه لم يبق زمان ولم يعد هناك مكان، أليس ذلك أمراً يدعو للحزن.
ـ قبل أن أتحدث عن الأسماء ألاحظ أنك تكرر كلمة "عداوات" من جديد، يا سيدي صدقني ليس لي "عداوات" .
يعادوني في ماذا وأعاديهم لماذا؟ علاقتي مع محمد بن عيسى تعود إلى السنوات الأولى "لموسم أصيلة" منذ البداية كنت أعتقد أنه مشروع جدير بالاعتبار، وأنه سيؤدي فعلا إلى تطوير بلدة مهملة، وأبانت الأيام أن المشروع جدي، وأنه ناجح أقولها بدون تحفظ، أنا أحد الذين يعرفون كيف كانت أصيلة وكيف صارت بلدة. أضحت تعبر عن إشعاع بلد .
وأظن الآن لابد من الاستفادة من هذا المشروع دون حساسيات أو عقد وتعميمه على مدن مغربية أخرى على المستوى الشخصي، ظل بن عيسى صديقاً عزيزاً وسيبقى كذلك.
ـ التقيت به مرة واحدة طوال وجودي في المغرب، خلال ذلك اللقاء لا هو تحدث ولا أنا سألت. أعتقد أنه يعرفني عبر آخرين وأنا أعرفه كذلك عن طريق آخرين. وفي ظني أن هذا النوع من المعرفة غير كاف.
ـ هناك واقعتان أتذكرهما مع عبد السلام أحيزون، الأولى بعد انتقال مكتب جريدة الشرق الأوسط في الرباط من شارع الحسن الأول، إلى شارع أبو فارس المريني في وسط الرباط.
وكان ذلك في منتصف الثمانينات، كانت لدينا مشكلة مع جهاز الفاكس وكان قد دخل المغرب للتو، إذ كان في بعض الأحيان لا يرسل أية وثيقة، وأظن أن بعض الجهات كانت تتعمد مراقبة رسائل الفاكس وتعرقل وصولها.
ذهبت عنده في مكتبه في أكدال، حيث كان يعمل مديراً في إدارة تقنية تابعة لوزارة البريد وشرحت له المشكلة، ولم تكن لي سابق معرفة به، واستغرب حدوث ذلك وانتقل معي بنفسه إلى حيث مركز الاتصالات في شارع محمد الخامس في الرباط ليقف على سبب المشكلة.
أظن أنه عرف وقتها "أسباب النزول"، كما يقال أي "سبب الداء"، ووعدني بحل الموضوع وحله بالفعل . الواقعة الثانية كانت في طائرة تابعة للخطوط المغربية من الدار البيضاء إلى طرابلس -ليبيا- وكنا في طريقنا إلى تغطية الزيارة اليتيمة التي قام بها الملك الحسن الثاني إلى ليبيا عام 1989، وتصادف أن جلسنا في مقاعد متجاورة، أنا وأحيزون والصحافية الراحلة ناديا برادلي، في تلك الرحلة تعرفت عن قرب على أحيزون
بعد ذلك باعدت بيننا الأيام والمهام ولم نكن نلتقي إلا لماماً، لكن في كل لقاءاتنا كان رجلاً لطيفاً.
ـ لا أود أن أحرج أحداً، لكن كثيرين يعرفون أن علاقتي مع إدريس البصري ظلت هي علاقة "صحافي" مع "وزير" اختلفت معه يوم كان الناس يتسابقون لنيل رضاه وكتبت أشياء أزعجته، الشهود موجودون وما كتبته محفوظ. هل حدث هذا؟ نعم حدث. لن أدعي بطولة ولا أسعى إليها، لكن سأذكر بواقعة حدثت بعد أن انطفأت الأضواء حول البصري، وانفض الناس من حوله ولم يكن يجرؤ أحد على الاقتراب منه.
في هذه الظروف ذهبت إلى منزله في شاطئ "بوزنيقة" في شتنبر 2002، وأجريت معه حواراً نشر قبل الانتخابات التشريعية وقلت له بالحرف، وكان حاضراً زميلي وصديقي المصور عبد اللطيف الصيباري وأنس دينيا صديق البصري وشريط الحوار موجود، قلت له "جئت لأجري معك هذا الحوار لأنني لست مديناً لك بأي شيء" وقال في حقي كلمات ثناء لن أقولها.
- عندما انتقل كثيرون إلى حيث مراعي الشتاء، وبقيت أنا هناك في الأرض المقفرة، كان محمد برادة أحد القلائل الذين وقفوا إلى جانبي، وقفة صديق حقيقية. أنا ممتن له طيلة حياتي، وأعرف أنه فعل ذلك مع كثيرين.
آخر دعوة تلقيتها قبل أن أغادر المغرب كانت دعوة عشاء في منزله رفقة ابنتي "رؤى" وابني "امرؤ القيس" .
كان يعرف أنني سأتركهما خلفي، وطلب منهما بإلحاح شديد أن يتصلا به في أي وقت
هذا موقف لن آنساه مدى حياتي.
ـ من بين الأمور التي تشغل بالي منذ أن غادرت المغرب، البحث عن كيفية اللقاء مجدداً بالصديق أحمد بن جلون في أي مكان لأكمل عملاً بدأته معه واشتغلنا عليه لمدة خمس سنوات، وهو كتاب سيصدر بعنوان "العبور من الجحيم"، عندما ينزل هذا الكتاب إلى الأسواق سيدرك الناس كم عانى هذا الرجل الرائع.
مع أحمد بن جلون سأستعمل أحكام القيمة وفعل التفضيل لأقول إنه من أنبل السياسيين الذين عرفتهم في المغرب وأكثرهم ثباتاً على المبدأ. هو من أعز أصدقائي، وعلى الذين يتحدثون عن "عهد قديم" أن يسألوا أحمد بن جلون عن كيف بدأت علاقتي معه وفي أي ظرف.
ـ لم ألتق عبد المنعم دلمي قط في حياتي حتى فبراير 2000، كان دلمي قرر أن يصدر يومية "الصباح" ويبحث عن من يطلق هذه اليومية، اقترح عليه الصديق عبد اللطيف عواد اسمي، وطلب عواد أن نلتقي في هيلتون الرباط وهكذا كان، واتفقت مع دلمي حول المطلوب وانتقلت ذلك الشهر إلى الدار البيضاء، وفي العاشر من أبريل صدرت "الصباح" طبقاً للخط التحريري الذي اقترحه دلمي شخصياً.
بعد فترة، كان من الواضح أن الرجل يتعرض لضغوط لتغيير الخط التحريري للصحيفة، قال لي بالحرف يوم ابلغني بقراره إعفائي من مهامي في نوفمبر 2001 كرئيس للتحرير "لست مستعداً لتأطير المجتمع المدني من جيبي" ثم اقترح علي أن أتفرغ للكتابة ويتولى هو رئاسة التحرير .
كان يريد صحيفة منوعات، هذا شأنه، استعمل حقه كناشر في أن يطلب ذلك واستعملت حقي كصحافي في أن أرفض عرضه بأن تقتصر علاقتي مع الصحيفة بكتابة عمود وإجراء حوارات. كل منا استعمل ما هو متاح له.
هناك تفاصيل كثيرة ليس هذا مكانها أو وقتها، لكن علي أن أقول إن الرجل كان ودوداً معي أثناء عملي معه وحتى حين غادرت.
ـ أولا أنا لم التحق بالجمهور بل أسستها. ولا أزيد ثانياً لا أريد أن أنكأ جراحات.
ـ عملي في "إيلاف" كان مفيداً للغاية. بالفعل أسند لي الصديق عثمان العمير مهمة "مدير تحرير" وكانت تجربة مثيرة، لكنها مرهقة.
لم أقدم استقالتي من "إيلاف" بل استأذنت في الانصراف عندما شعرت بالإرهاق، كان الرجل لطيفاً حاول معي كثيراً للاستمرار لكن كنت تعبت بالفعل من عمل يمتد أحيانا 12 ساعة يومياً وأنت أمام الحاسوب لا تتحرك.
على المستوى الشخصي ربطتني مع عثمان العمير علاقة خاصة عمرها الآن أزيد من ربع قرن، لكن منذ أن غادرت المغرب لم نلتق، هو دائم الحركة بين ثلاث قارات، وأنا أصبحت الآن في قارة رابعة.
ـ هذا صحيح، كان موقفاً إنسانياً لا ينسى. كان الوحيد الذي تكبد المشاق وودعني في المطار، أنا ممتن له بذلك، حتى أبنائي أو القريبين لم يستطيعوا تحمل ضغط تلك اللحظات.
كان إدريس رفيقي في الصباحات الرائقة ولسنوات طويلة عندما كنا نمارس رياضة المشي في غابة "هيلتون" في الرباط.
إدريس المريني مبدع حقيقي، قدم أعمالا وما يزال يقدم ما يؤكد ذلك ...وأظن أنه ظلم كثيراً.
ـ كان واحداً من مجموعة الشبان الذين أطلقوا معي "الصباح" . كنت أقول لهم في اجتماعات التحرير، سيأتي وقت تدركون أنكم أنجزتم شيئاً مهماً
كانوا في البداية 12 شابة وشابا، إذا قلت لك أين يوجدون الآن، لكان ذلك بمثابة أفضل شهادة حول تلك المجموعة.
حسن العطافي يتولى الآن مسؤولية رئاسة تحرير صحيفتكم وهو موقع بلغه بجهده ومثابرته، عبد الله الدامون خلق لنفسه اسماً وهو صحافي في "الشرق الأوسط" احمد الجلالي يمارس المهنة في لندن، عمر جاري سكرتير تحرير أسبوعية ملفتة، محمد الناسك يشغل موقعاً أساسياً في وكالة إعلامية في قطر، محمد الخياطي موظف سام في منظمة المؤتمر الإسلامي، أحمد غيلان موظف سام في الأمم المتحدة في نيويورك، خديجة الدرايسي دبلوماسية مرموقة في وزارة الخارجية المغربية، فاطمة موسى تعمل في احدى الجامعات البريطانية، خالد خاتم خبير في الهيئة العليا للقطاع السمعي البصري، حفيظ بن خويا ويرأس الآن مكتب وكالة المغرب العربي في القنيطرة ثم ماذا أقول؟ هذه هي مرافعتي أمام التاريخ حول تجربة "الصباح" .
ـ حتى أكون صريحاً معك لا أتتبع الأمر بالتفصيل، لأن واشنطن طوفان من الأخبار والأنشطة، ثم إن توزيع المهام الذي اتفقت عليه مع زملائي هنا جعل "العراق" من نصيبي، وأخبار العراق يمكن أن تملأ بها صفحات عشر صحف يوميا، لكن أعتقد أن الموقف الأميركي، وبفضل جهود المغرب، لم يتغير، الأميركيون يقولون الآن إن الحل لابد أن يتفاوض عليه بين المغرب والجزائر، وهذا موقف إيجابي.
عموماً صورة المغرب هنا لدى الإدارة الأميركية وصناع القرار حسنة، هم يعتقدون أن العاهل المغربي الملك محمد السادس يبذل جهداً للقيام بإصلاحات وفي رأيهم أن ذلك بدأ قبل أن تطرح الإدارة الحالية مسألة الإصلاحات في العالم العربي، وهذا أيضا أمر ايجابي.
ـ عندما طلب مني مغادرة موقعي في رئاسة تحرير "الجمهور"، قلت هذه آخر تجربة مع الصحافة المغربية، وما زلت أعتقد أنه لم يحدث ما يجعلني أتراجع. أنا لا أخلط بين الأشياء، المغرب شيء والعمل في الصحافة المغربية شيء آخر.
المغرب لم يبارح ذاكرتي لحظة واحدة، أتذكره في الصباحات الباكرة حين يخرج الناس يبحثون عن أرزاقهم، وأثناء ضوضاء النهار، وفي الأمسيات والليالي الطويلة.
أتذكره على إثر هطلة مطر، أو نسمة صيف، المغرب معي في كل الأيام وجميع الليالي، وحسرتي الكبرى أنه لم يبق لي مكان فيه.