الصحراء المغربية ترصد معاناة العاملات

التحرر والعمل بالنسبة للمرأة سيف ذو حدين

الأحد 30 أبريل 2006 - 11:08
تعليم المرأة ضرورة حضارية

صعوبة ظروف العيش، غلاء المعيشة، توفير حياة أفضل، صعوبة تحقيق الذات، المساواة مع الرجل، كلها عوامل فرضت على المرأة خلع ثوب البيت والخروج إلى ميدان العمل لمواجهة قساوة الواقع، وعبء الحياة، وتحمل المسؤولية جنبا إلى جنب مع ندها الرجل.

فالمرأة التي كانت وإلى وقت قريب تنتظر كل حاجياتها من الأب أو الزوج أصبحت اليوم منتجا مساهما في نهضة المجتمع، مضحية في سبيل ذلك براحتها النفسية والجسدية.
لقد كانت أفكار دعاة تحرير المرأة تحمل رؤى تفاؤلية، وتؤمن بقدرة المرأة على تسلق السلم الاجتماعي لبلوغ مراكز مهمة بثقافتها وتحقيقها لذاتها واستقلاليتها وتكسير المعتقد السائد حول كونها ذلك المخلوق الضعيف المستهلك، لكن هذه الرؤى التفاؤلية، أصبحت تحتمل المراجعة، لأن التحرر بالنسبة للمرأة سيف ذو حدين.


"ها احنا صابرين حتى يحن مولانا علينا بشي راجل أولا شي "حركة" للطاليان" تقول إحدى العاملات بشركة للنسيج ببوسيجورفي الدار البيضاء، وإ ن بدا في كلامها نوع من المزاح، إلا أنها تكشف القناع عن وجه يختزل حال العديد من عاملات معامل النسيج اللواتي يعشن الذل اليومي، دون أن يكون من حقهن أن يبحن بشكواهن لرؤسائهن، أو حتى أن يصدر عنهن أنين المعاناة.

فالأسوار العالية والأبواب الحديدية الكبيرة، التي تسيج العديد من معامل قطاع النسيج بمنطقتي عين السبع والبرنوصي، تخفي خلفها واقعا مهنيا مريرا وظروف عمل مزرية، تعيشها مئات العاملات، خاصة وأن كل الدراسات والإحصاءات الرسمية، تشير إلى هذا القطاع من زاوية الأرقام وحصص الإنتاج، وأيضا الجوانب السلبية المتجلية في ضعف التغطية الاجتماعية، وعدم تطبيق الحد الأدنى للأجور، والعمل المؤقت أو الهش، وغياب الخدمات الصحية، وسوء التهوية داخل المعامل، والانتهاك المنهجي للحقوق النقابية، والتحرش الجنسي بمختلف أشكاله وألوانه ونتائجه النفسية.

لذا ينظر الكثير من الملاحظين إلى قطاع النسيج على أنه مساحة خصبة للاستغلال في مطلق عريها، لتبقى هذه المعطيات تحصيل حاصل داخل أسوار المعامل، دون أن ينتبه الجميع إلى هذا القهر الإضافي والمعاناة الصامتة التي تعيشها يوميا تلك العاملات في الهواء الطلق وأمام الملأ أثناء حصة الغذاء.

غذاء أمام الملأ وفي الهواء الطلق
لا يمكن لكل عابر للطرق والمسالك التي تخترق أكبر المناطق الصناعية بالدار البيضاء، ألا يثير انتباهه هذا الزخم الهائل من عاملات قطاع النسيج المنتشرات على الأرصفة وأمام أبواب المعامل، في فترة يكون فيها أغلب المستخدمين عائدين إلى بيوتهم لتناول وجبة الغذاء وسط أحضان أسرهم، دون أن تنكشف ملامح مائدتهم على كل العيون المتطفلة، عكس هؤلاء العاملات القابعات في كل الزوايا والأماكن المشاعة على نظرات الفضوليين والمتلصصين.

إنها مشاهد معبرة وأوضح من ألوان وزرات العمل الناصعة البياض، حيث تجد مجموعات من العاملات منزويات في هذا الركن أو ذاك، منهمكات في تناول ما تيسر من طعام، "يتكون في الغالب من كسرة خبز وبعض الخضر المطهوة، وفي أحسن الأحوال قطعا من السمك المقلي أو البيض ا لمسلوق " تقول إحدى العاملات وهي تلتهم خليطا من الخضر المسلوقة من آنية بلاستيكية.ونظرا لضيق الوقت وحالة الإرهاق التي تكون عليها معظم العاملات عند عودتهن المسائية إلى بيوتهن ـ خصوصا المتزوجات منهن ـ فإن ظروف تهيئ وجبة طعام تحملها معها كوجبة غذاء، تظل مستعصية لعدة اعتبارات اجتماعية ومادية.

وتؤكد عاملة تجاوزت عقدها الرابع ببعض السنوات، إذ تعترف أمام زميلاتها قائلة "كلما عدت إلى بيتي في حدود الساعة الثامنة مساء، أتحامل على شدة التعب الذي سحق عظامي، وبالكاد أهيء وجبة عشاء خفيفة مما ما توفر من خضر، وأحتفظ بقسط من هذا الطعام في الثلاجة ليكون حصتي الغذائية في يوم الغد".

وتعيش عاملات قطاع النسيج حالات مشابهة أو أكثر قتامة تعد مضمون عشرات الحكايات التي يعتصر لها القلب، تحكى على لسان هؤلاء العاملات، دون تحفظ أو مداراة، وإن كان بعضهن يحكيها بكيفية مرحة لإخفاء معاناته، مثل شابة في مقتبل العمر انتفضت وسط حشد من زميلاتها العاملات، وأعلنت بكل فخر واعتزاز أنها تستيقظ في فجر كل يوم لتهيئ وجبتها المفضلة "كنقلي ديما بطاطا فريت مع أومليط بالكاشير وسط الخبز" وهي وجبات باردة وبخسة تؤثث موائد من ورق الجرائد، تتحلق حولها أعداد هائلة من العاملات.

على بعد أمتار من المحكمة الابتدائية للدار البيضاء، تقع إحدى المقاهي الفاخرة، ويشد انتباه المارين من أمامها فسيفساؤها وديكورها المختلف عن باقي مثيلاتها في العاصمة الاقتصادية، وما يزيد من تميزها جودة الخدمات المقدمة لمريديها والموكول أمره إلى فتاة في عمر الزهور، ملابسها المميزة والمستقاة ألوانها من لون المقهى، التي يغلب عليها اللون الأخضر، تبدو كمرج أخضر تنتقل داخله لمياء كالفراشة بين موائدها.

معناة النادلات بالمقاهي
فتاة جملية تدعى لمياء 18 سنة تقطن بإحدى الشقق بالحي الحسني وتنحدر من إقليم اخريبكة، قالت في تصريح لـ "الصحراء المغربية" "رغم المشاكل التي أعانيها، فإنني لا أظهر حزني لأن طبيعة العمل تفرض علي أن أكون دائمة الابتسامة"، وتضيف "وجود المرأة داخل المقاهي أعطى لها رونقا آخر يختلف عن وجود الرجل، إلا أن بعض أفراد المجتمع، مازالت تلك النظرة التحقيرية للمرأة تلازم عقولهم، وكم صادفت من نماذج في هذا الإطار" .

حضور النادلات في بعض المقاهي الفارهة، أصبح أمرا مألوفا لدى العديد من مريديها داخل الأحياء الراقية، في حين لا تعرف المقاهي الشعبية مثل هذا الحضور لاعتبارات عدة، يجملها محمد السبها رئيس جمعية أرباب المقاهي والمقشدات وقاعات الشاي في الدار البيضاء، في "طبيعة الثقافة السائدة داخل الوسط الشعبي، إلا أن هذا الأمر يمكن تجاوزه بالتطور والتحضر الذي يفرض تواجد المرأة في العديد من مجالات العمل خاصة أن عمل النادلة يتقاطع مع طبيعتها كامرأة تهتم بأشغال البيت".

إلا أن ممارسة هذه المهنة دون غيرها يطرح العديد من التساؤلات، فلمياء لم تكن حسب حديثها أمام بديل آخر غير مزاولة هذه المهنة، لمغادرتها المدرسة في سن مبكرة، وظروفها الاجتماعية الصعبة، تقول لمياء "غادرت المدرسة في سن مبكر، وكنت مضطرة للبحث عن عمل لمساعدة أسرتي، ولم أجد أمامي غير هذه المقهى التي أكسب من العمل فيها قوتي، فمدخولي الأسبوعي دون احتساب الإكراميات، محدد في 250 درهما، أشتغل من الساعة السادسة صباحا إلى العاشرة مساء في تناوب مع زميلتي في العمل، ورغم طول ساعات العمل، فمفروض علي عدم الجلوس مع الابتسامة الدائمة في وجه زبائن المقهى".

وتضيف بنبرة حزينة، "والدي طلق أمي منذ صغري وتربيت عند خالتي ثم جدتي، وأخيرا عند زوجة جدي بمراكش، إنني فعلا أفتقد للجو الأسري في غياب والدي الذي لا أعرفه"، تستمر في حديثها والدموع تنهمر من مقلتيها "حاولت البحث عنه، فلم أفلح في ذلك، فقد سمعت أخيرا أنه يسكن بقلعة السراغنة"، سكتت هنيهة، وقالت "إنني أحتاج إليه أكثر من أي وقت مضى"، ثم تجهش بالبكاء، ومباشرة بعد ذلك، ترفع عينيها صوب باب المقهى لتلمح أحد الزبائن، وهو يلج إلى الداخل، فتلملم دموعها، وتعيد رسم البسمة على محياها، ثم تنطلق صوب الزبون الجديد مرحبة به.

بحسبهن فإن أغلب النادلات تتقاطع ظروفهن الاجتماعية والاقتصادية والتي تجعل من المقهى الملاذ الوحيد للحصول على مورد رزق، إلا أن طبيعة هذا العمل تحتم عليهن التأخر إلى ساعات متأخرة من الليل، ما يطرح العديد من الإشكالات حول ما إذا اهتمت مدونة الشغل الجديدة بهذا الأمر .

وفي هذا الصدد، يقول هشام محسن محامي في هيئة الدار البيضاء "إن المشرع شدد في تحديد مدد الاشتغال بخصوص المرأة"، ففي هذه الحالة يضيف المحامي، "القانون لا يجبر المرأة على الاشتغال خلال المدد الليلية، وتوعد المشرع المخالف لهذا المقتضى بعقوبة مالية تصل إلى 5000 درهم, إضافة إلى أنها لا يمكن لها أن تزاول مهنتها في ساعات إضافية عن الساعات المقررة، مؤكدا أن هذه ضوابط قانونية محددة من المفروض احترامها.




تابعونا على فيسبوك