الانتقام ديمقراطيا / حسن عمر العلوي

الجمعة 20 يناير 2006 - 16:45

قد يبدو عنوان المقال متناقضا لعدم تزاوج الديمقراطية بالانتقام، إلا أن ما حدث في الانتخابات الرئاسية الأخيرة في التشيلي، وما أسفرت عنه نتائج تلك الانتخابات بفوز السيدة ميشيل باشلي بمنصب رئيس الجمهورية يؤكد أن للديمقراطية ثأرها الخاص وانتقامها الجميل .

وكأني بهذه السيدة وهي توجه أول كلماتها إلى شعب التشيلي قائلة : "ستكون حكومتي حكومة وطنية وسأكون رئيسة لجميع التشيليين"، وكأني بها تكاد تهتف أمام الجماهير : "تفضل، مرحبا بك يا رئيسنا الشرعي الليندي"، هذه المرأة استطاعت بفضل دأبها وصبرها أن تستعيد المشروعية الديموقراطية لبلدها كاملة، فانتصارها يعد حدا فاصلا مع عهد الديكتاتور أوغيستوبينوتشي وفلوله.

يمكن اعتبار التشيلي من الدول المتوسطية في أميركا الجنوبية اللاتينية، قياسا بدول أخرى كالبرازيل والمكسيك مثلا، لكن مراحل تطور أحداثها السياسية منذ بداية الغزو الأجنبي لهذا الجزء من القارة الأميركية كان لها تأثيرها الداخلي وصداها الخارجي.

لقد بدأ هذا الغزو سنة 1536، أي بعد حوالي ثلاثين سنة على وصول أول رحلة استكشافية بقيادة كريستوف كولومب إلى الشواطئ الأميركية، وبداية مغامرات غزو العالم الجديد إيذانا بفتح صفحات أدخلت العالم ككل في مرحلة متقدمة من تاريخ البشرية جمعاء : صفحات ممزوجة بكل آيات العنف الدموي وبكل مآثر التعمير والتشييد، عاث قطاع الطرق فسادا، وانكب المفكرون المستنيرون يصوغون القوانين المشرقة التي تخدم الإنسان وتحمي الإنسانية، كانت العبودية والرق والاتجار في الرجال والنساء والأطفال بكل الأشكال المهنية والفظاعة المقيتة.

شهدت كل أرجاء القارة الجديدة مآسي يستحيل وصفها بتفصيل نظرا لأنها تفوق كل وصف، ونظرا لكونها استمرت قرونا تشكلت خلالها دول عديدة من جملتها دولة التشيلي التي تقع على شاطئ المحيط الهادي بمساحة تبلغ 756 ألفا و 940 كلمترا مربعا في شكل مستطيل، حيث تبعد نقطة آخر الجنوب عن نقطة بداية الشمال بـ 4200 كلمتر، ويبلغ عرض هذا المستطيل في المتوسط من الشرق إلى الغرب حوالي 200 كلمتر
مرت البلاد من أطوار سادها الإقطاع واستغلال عمال السخرة، خاصة بعد اكتشاف المعادن وعلى رأسها النحاس الذي عرف الصراع من أجل احتكار استغلال مناجمه أدوارا قاتلة.

ولم تكن الاحتكارات الأميركية الشمالية بعيدة عن الموضوع، بل كانت في صلب الصراع
لقد بقي أمر السلطة رهينة بين أيدي كبار ملاك الأراضي والعسكريين والكنيسة الكاثوليكية حيث إن نسبة المنتمين اليها تمثل 89٪ من عدد مجموع السكان
بدأ العالم الخارجي يهتم بالتشيلي مع بداية العهد الديموقراطي مع وصول السيد فرى المعتدل والمتزن إلى سدة الرئاسة التي حافظ عليها من سنة 1964 إلى سنة 1970، حيث امتاز عهده باتخاذ قرارات لمصلحة اقتصاد البلاد وتحرره من الهيمنة الأجنبية والإقطاعية.

وكان على رأس هذه القرارات تأميم المناجم التي تعد الثروة الأساسية في البلاد
لقد شنت حملات خارجية ضد هذا الرئيس، ولكنه كان مدعوما من طرف الشعب وهيآته وتنظيماته الحزبية والعمالية الشبابية، ونشطت قوى اليسار بكل طاقاتها الفكرية والفنية، الشيء الذي هيأ المناخ الطبيعي ليفوز الاشتراكي الليندي فوزا تاريخيا في الانتخابات الرئاسية لسنة 1970 في جو مشحون بالحماس، وكانت أصداء ذلك الحماس تترجم في الاهتمام بالجانب الثقافي الإنساني، إذ أصبح للمؤلفين والمبدعين شعراء وفنانين أسماء ذات إشعاع على الصعيد العالمي من بينهم، مثلا الشاعر المتلزم بابلونيرودا الحائز جائزة نوبل الأدبية سنة 1976 أي في عز عهد الرئيس الليندي.

أصبح الأمر واضحا بين قوى التغيير نحو الأفضل والقوات ذات الحنين الى الماضي، وصار مناخ الحرية يتسع، وشهدت مختلف الكليات تظاهرات تطالب بالمزيد، وتمت تحالفات بين كل المعادين لهذه الحركة، ولم يكن أمامهم من وسيلة لوضع حد لموجة الديموقراطية هذه إلا بالديكتاتورية البغيظة.

فكان الانقلاب الدامي الذي قاومه المدنيون الذين سجنوا في الملاعب الرياضية في أسوأ الـظروف وهوجمت الكليات بعد محاصرتها وأطلق الرصاص بشكل عشوائي على طلابها وطالباتها واستشهد الرئيس الليندي وهو يدافع عن الشرعية وسلاحه في يده.

وبدأ عهد الديكتاتورية برئاسة الجنرال أوغيستوبينوتشي سنة 1973 وغرقت البلاد في الظلام وتم التنكيل بكل من يحاول أن يرفع أصبعه محتجا أو معارضا، وأوحى واقع التشيلي المحزن بمواضيع أصبحت عبارة عن أفلام سينمائية ممتازة أو روايات تنضح بالألم أوأشعار تنز دما.

حدث هذا في زمن كانت واشنطن تدعم فيه ديكتاتوريات أقطار أميركا اللاتينية كما هو الحال مع بينوتشي والجنرال فيديلا في الأرجنتي, لكن حركة التاريخ لاترجع إلى الوراء
ربما تكون هذه المقولة تبسيطية، ولكن واقع تطورات الحياة السياسية في التشيلي يؤكدها.

فتحت الضغط الشعبي نظم اقتراع عام سنة 1988 أرغم بينوتشي على إرجاع السلطة للمدنيين واحتفظ بدور الإشراف على الجيش إلى أن اضطر لمغادرة البلاد هاربا، وصدر في حقه أمر بالاعتقال من طرف قاض إسباني بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية
لقد سار التفتح الديموقراطي خطوة خطوة بانتصار مرشح الوسط واليسار ريكاردولاغوس سنة 2000.

والآن تقطع السيدة ميشيل باشلي خطوة أخرى، ولكنها عريضة هذه المرة إذ إن هذا التحالف أصبح يمثل الأغلبية في مجلسي الشيوخ والنواب مما يعطيها هامشا واسعا لاستصدار القرارات التي كان يعارضها اليمينيون خلال الخمسة أعوام الأخيرة إذ كانوا هم الذين يمثلون الأغلبية في هذين المجلسين، أليس ما حدث يعد نوعا من الانتقام ديمقراطيا؟"
السيدة باشلي في الرابعة والخمسين من عمرها طبيبة أطفال إذن، عليها الآن أن تعمل على معالجة خمسة عشر مليون طفل هم أبناء وطنها.




تابعونا على فيسبوك