كتاب ممتع ذلك الذي يتحفنا به الباحث المصري عاطف أحمد تحت عنوان "الإسلام والعلمنة : قراءات نقدية في الفكر المعاصر"، حيث الترحال النقدي والبانورامي مع العديد من المشاريع الفكرية العربية والإسلامية، ويتعلق الأمر بعرض قراءات نقدية تقترب من الرصانة ـ وإن كانت
ولقد أصاب نصر حامد أبو زيد، في تقديمه لهذا العمل الجاد عن كتاب يمثل في بنيته ومحتواه نموذجا راقيا من نماذج الحوار النقدي المفتقد إلى حد كبير في ثقافتنا المعاصرة خاصة في العقود الثلاث الأخيرة.
من حيث البنية يمثل الكتاب قراءات نقدية متنوعة لإنتاج فكري ثقافي يتراوح بين "الفلسفي" و"التاريخي" و"الاجتماعي" و"الديني".
وهو يعتمد على قراءة نقدية لكتب صدرت حديثا تمثل أطروحات ورؤى وأفكار جديرة بالنقاش والجدل والسجال .
ورغم أن الكتاب يحمل عنوان "الإسلام والعلمنة : قراءات نقدية في الفكر المعاصر"، يضيف أبو زيد، فإن تقسيم الكتاب إلى فصول لم يستطع أن يخفي بنيته الجدلية السجالية أحيانا وهي البنية التي تعكس رغبة المؤلف في الاشتباك النقدي مع أطروحات مؤلفين متنوعي الاتجاهات والمقاصد والانتماءات السياسية والفكرية.
والحال أن الاشتباك النقدي مع هذه الكتب يجسد بحق تحريضا للقارئ على قراءة هذه الكتب، فالمؤلف يتحرج بنزاهة نقدية فائقة أن يقدم أحكاما نقدية قاطعة أو نهائية بشأن الأفكار التي يتناولها.
جاء الكتاب إذا موزعا على سبعة فصول وتقديم لنصر حامد أبو زيد يحمل عنوان تحت عنوان "نقد النقد : ثقافة الحوار بديلا عن الإقصاء".
أما فصوله فجاءت تحت العناوين التالية : "الفكر العربي الإسلامي بين المنهجية والإيديولوجيا" محمد عابد الجابري، ياسين الحافظ وزكي نجيب محفوظ، "نقد الفكر الإسلامي بين الظاهراتية والهيجيلية" حسن حنفي وعلي مبروك، "الإسلام بين التاريخ والسوسيولوجيا" بيتر غران وفرانسوا بورجا، "العلمانية بين السياسة والفلسفة" عبد الله النعيم وعادل ظاهر، "تحديث الفكر الديني" أحمد عبد المعطي حجازي وفهمي هويدي، "النص الديني : قراءات إيديولوجية" سيد قطب جمال البنا وسلمان غانم، "بعض ملامح الإسلام النقدي" قراءة في خليل عبد الكريم.
سوف نتوقف عند قراءات واشتباكات المؤلف مع أعمال بعض الأسماء سالفة الذكر، ولنبدأ بنموذج الراحل خليل عبد الكريم، فقد كان طبيعيا من وجهة نظرنا، إذا أخذنا بعين الاعتبار ثقل الفكرانية التي يتأسس عليها الخطاب النقدي للمؤلف أن يشهد لأعمال خليل عبد الكريم كونها تتميز بالجرأة في تناول الموضوعات التي يسكت عنها كثير من المهتمين بالتراث العربي الإسلامي.
فهو في أحد من أوائل كتبه على سبيل المثال يتناول بالتوثيق والإثبات موضوع "الجذور التاريخية للشريعة الإسلامية" وهو موضوع متوار في الظل ولكنه لا يتوانى عن الخوض فيه كاشفا كيف أن كثيرا من التشريعات والتقاليد التي تبناها الإسلام هي في واقعها التاريخي جزء من التراث العربي قبل الإسلام.
كما يبين في كتابه الآخر الموسوم بـ "قريش من القبيلة إلى الدولة المركزية" كيف أسهمت العوامل التاريخية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسيةفي تحويل قبيلة بدوية إلى تأسيس وقيادة دولة مترامية الأطراف ذات قدسية في أذهان الكثيرين هي دولة الخلافة الإسلامية وهكذا هو تقريبا في سائر كتبه.
بالنسبة لأعمال المفكر المغربي محمد عابد الجابري، فإنها تتميز، كما هو معلوم عند متتبعي اجتهادات هذا المفكر الكبير، بالتركيز على آليات إنتاج الفكر أكثر من تركيزها على نتاج هذا الفكر، مما تطلب منه التركيز على مجالات محددة في التراث العربي الإسلامي دون مجالات أخرى، ويرى عاطف أحمد أن الجابري استبعد علوم التفسير والتاريخ والأدب كما همش العلوم الطبيعية والرياضية وبطبيعة الحال فقد أقصى تماما مختلف جوانب الثقافة الشعبية من أمثال وقصص وخرافات وأساطير وغيرها.
برأي المؤلف، يضعنا الجابري أمام عدد كبير من المفاهيم التي ينشئها بهدف توظيفها، وهي مفاهيم تفتقد أحيانا للوضوح وأحيانا أخرى تبدو بلا وظيفة محددة في البحث وكثيرا ما تتداخل وتتشابك حتى يصعب التمييز بينها فلدينا مفاهيم البنية المعرفية والفعل المعرفي والآلية الذهنية والبنية اللاشعورية، وثوابت العقل العربي والنظام المعرفي والحقل المعرفي والمنهج والرؤية والسلطة الإبستمولوجية والبنية المحصلة.
ولدينا تصنيف للمعقولات إلى معقول ديني ومعقول عقلي ولا معقول عقلي، ثم لدينا البيان والعرفان والبرهان، والتي تستخدم بأكثر من معنى وقد يحدث بينها تداخل تكويني أو بنيوي في بعض الأحيان.
يوجز الكاتب أهم سمات مشروع حسن حنفي والذي للتذكير فقط، تبنى في تحليل قضاياه منهجا أقرب للمعالجة الفينيمولوجية "الظاهراتية" أو تحليل الماهيات كما يحب أن يسميها في خصائص عدة نورد منها أربع قراءات على الأقل : ـ هو مشروع ذو طبيعة عملية في الأساس يقوم على أولوية الواقع على الفكر وأولوية حركة النهضة على نظرية النهضة.
ـ هو مشروع ذو مضمون ديني أو يرتبط بالوعي الديني الذي يسعى إلى تجديده وتحويله إلى فكرانية عصرية ثورية.
ـ هو مشروع جماهيري مادته الأساسية وتوجهه هو الجماهير التي هي أداة النهضة في الوقت ذاته.
ـ هو مشروع يعتمد على التصديق لا الإقناع.
فالمعاني التي تصل إليها المعالجة الظاهرية الشعورية لا تتطلب إقناعا عقليا عن طريق الاستدلال المنطقي والإثبات الوقائعي بل تتطلب وتتوقع تصديقا من قبل المتلقي
فهو يفترض أن هذا الأخير لو آمن بما يقول لتحقق الهدف ولأصبح بإمكاننا إحداث النهضة
وخلاصة ذلك كله أننا أمام مشروع أقرب إلى أن يكون مشروعا نبوي الطابع يحمل رسالة خلاصية إلى العالم الإسلامي بأسره.
من الفصول المثيرة للجدل تلك التي يحفل بها الكتاب، الفصل السادس الذي يتطرق فيه إلى التوظيف الفكراني للنصوص الدينية، من خلال استعراض ثلاث قراءات معاصرة لبعض النصوص القرآنية والتي تكشف من وجهة نظر المؤلف إلى أي مدى يمكن لفكرانية القارئ أن تؤثر على طريقة فهمه للنصوص التي ينتقيها لإثبات وجهة نظره.
والقراءة الفكرانية هنا تختلف عن كل من التفسير والتأويل فبينما نجد أن التفسير والتأويل يلتزمان بضوابط لغوية ومنهجية معينة فإننا نجد أن القراءة الفكرانية تعالج النص من خلال منظور غير ديني مستمد من تصورات ومفاهيم ورؤية فردية ناشئة عن قناعات سياسية أو فكرية أو اجتماعية معينة تعبر بدورها عن وضعية اجتماعية وسياق ثقافي وزاوية رؤية خاصة للذات وللآخرين وللنظام الاجتماعي ككل, الأمر الذي يجعل تلك الرؤية ذات طابع تجزيئي ومنحاز لفئات مجتمعية معينة دون أخرى أو لتوجه فكري معين دون آخر، بينما تتصور أنها تمثل الحقيقة كلها.
وبالنتيجة، فالقراءة الفكرانية تعفي نفسها من أية ضوابط نصية وتستنطق مفردات النص ـ طوعا أو كرها ـ ما تعتقده هي لا ما يقوله النص على أي نحو من الأنحاء
حري بنا التوقف عند أهم خطوات القراءة الفكرانية كما سطرها عاطف أحمد، وجاءت على النحو التالي : ـ كونها تبني منظومة من التصورات والمعتقدات، وتنشأ عادة بعيدا عن التعامل مع النص الديني، أي في سياق معرفي وثقافي واجتماعي ينتمي غالبا لعصر مغاير لزمن ورود النص.
ـ توظيف تلك المنظومة في تكوين تصور معين للمسألة الدينية ولما يجب أن يكون عليه النص الديني أي ما يجب أن يحتويه من مبادئ وحقائق ونظم في مختلف المجالات.
ـ البحث عما يؤيد ذلك التصور فيما ورد في النص الديني من كلمات أو عبارات أو إشارات وفصلها عن سياقها اللغوي والوقائعي حتى يمكن تحميلها بالمعنى المراد الوصول إليه.
نأتي لتقييم أعمال عبد الله النعيم، والذي حاول أن يوفق بين ما لا يتفق بدافع برغماتية بحثة يتصور أنها السبيل الوحيد الفعال لضمان الحداثة والهوية الدينية معا
وإذا كان ذلك هدفا نبيلا في حد ذاته وإذا كان النعيم قد قدم نقدا متمكنا للشريعة التقليدية، إلا أن حلوله وقفت في منتصف الطريق.
فالمفاهيم التي قيم من خلالها الشريعة ويسعى إلى مواءمتها معها مثل النظام الدستوري القائم على التعددية والديموقراطية هي مفاهيم علمانية، وكذلك الحال مع الآليات التي يعالج بها مشكلات الشريعة.
والحق أن التسلسل المنطقي الطبيعي يجعل الدولة المتكونة من خلال تلك المفاهيم والآليات دولة علمانية.
غير أن النعيم يقطع هذا التسلسل في حلقته الأخيرة لتقفز أمامنا الشرعية الدينية للسياسة فتحيل الدولة إلى دولة دينية، الأمر الذي يعود بنا من جديد إلى الإشكاليات المتأصلة في الدولة الدينية بحكم ميكانيزماتها الداخلية.
ولأن الكاتب ينصاع فكرانيا ـ بدوره ـ للنزعة التاريخانية على غرار ما تتبناه "التيار الآركوني" نسبة إلى المفكر الجزائري محمد آركون، فإن الحل الذي يقترحه بهدف الخروج من المأزق الذي يسقطنا فيه عبد الله النعيم، يكمن في فهم النصوص التشريعية في القرآن على أنها "نصوص دنيوية ليس لأن موضوعاتها دنيوية بحتة فحسب بل أيضا لأن سياقها التاريخي وخصائصها اللغوية والمضمونية أيضا دنيوية.
فهي ـ بيت القصيد ـ خطاب موجه إلى عرب الجزيرة في القرن السابع وليس إلينا نحن في القرن العشرين".
نختتم هذا العرض بالتوقف عند قراءة المؤلف لاستدلالات المفكر عادل ضاهر تلك الواردة في كتابه المرجعي الذي يحمل عنوان "الأسس الفلسفية للعلمانية"، ونوجزها بدورنا في النقاط التالي : ـ فك الاشتباك بين العلمانية كمفهوم وموقف وبين تطورها التاريخي في السياق الغربي من خلال سيطرة مؤسسة الكنيسة والتحرر منها .
ـ معالجة العلمانية بوصفها موقفا معرفيا شاملا وليس مجرد حالة سياسية أو اجتماعية معينة.
ـ إدراك الارتباط الأساسي بين سطوة التشريع الديني على المجتمع وبين هيمنة القائمين على تفسير الدين الذين يصبح وجودهم في تلك الحالة لا مفر منه.
ـ فك الاشتباك بين التدين وبين إبعاد السلطة الدينية عن التحكم في شؤون الحياة المختلفة.
يشير نصر حامد أبو زيد في تقديمه للكتاب إلى أن النقاش الذي دار أخيرا في صياغة الدستور الأوروبي حول مسألة ذكر "الجذور المسيحية" يكشف عن حقيقة أن الدين يظل وسيظل عنصرا من عناصر الهوية لا العنصر الوحيد في ثقافة فصلت بين الديني والدنيوي بالمعنى السياسي.
وإذا كان الأمر كذلك بالفعل، ونعتقد أنه قطعا كذلك، فلنا أن نتصور طبيعة الأحوال القلقة مع النموذج الإسلامي، وطبيعة المأزق الذي يسقطنا فيه العديد من المفكرين والباحثين عندما نقرأ لهم أن الخطاب القرآني "موجه إلى عرب الجزيرة في القرن السابع وليس إلينا نحن في القرن العشرين".