ترددت فاطنة كثيرا قبل أن تسمح لنا بزيارتها بمكان سكناها وعملها، الكائن بأحد الأحياء الصفيحية بمنطقة سيدي البرنوصي، واشترطت أن لا نحمل معنا أي آلة تصوير أوتسجيل وأن نكتفي بالإنصات والاعتماد على قوة ذاكرتنا.
قبل ذلك، ولجنا أزقة الحي الصفيحي الضيقة إلى أن وصلنا إلى منزلها الذي فوجئنا بازدحامه رغم صغره، دعتنا إحدى النساء إلى الدخول فأخبرناها أننا على موعد مع فاطنة، كان البيت الصفيحي مكونا من ثلاث غرف صغيرة، الأولى لاستقبال الزوار، أما الغرفتان الأخريتات فوظفتهما كقاعتي انتظار واحدة للرجال والأخرى للنساء.
دخلنا غرفة انتظار النساء اللواتي لم يخفين تطفلهن لمعرفة سبب زيارتنا للمكان من خلال رمقنا بنظرات مباشرة، بعدها بدأن بطرح بعض الأسئلة عن سبب زيارتنا فما كان علينا سوى المراوغة باعتبار أن الاتفاق بيننا وبين فاطنة أن تكون الوحيدة التي تعرف هويتنا وسبب زيارتنا.
انتظرنا نصف ساعة قبل أن تشير لنا إحداهن بالدخول لغرفة "الشوافة" التي توقعنا أن تكون كالأماكن التي نشاهدها عاديا لمشعوذين ودجالين، لكن الأمر كان مخالفا تماما لتوقعاتنا، إذ كان أثاث الغرفة عاديا جدا باستثناء بعض الأوراق والبخور، وأوراق "الكارطا" و"مجمر"، كانت تضعه أمامها، أشارت لنا بالجلوس بجوارها، كانت تبدو امرأة عادية في الأربعينات من عمرها لا تبدو عليها ملامح المشعوذات بدت واثقة من نفسها، وكان أول سؤال نطرحه عليها هو سبب ولوجها مجال السحر والشعوذة.
بعد سماع فاطنة لسؤالنا اعتلت وجهها ابتسامة عريضة ورجعت بها الذاكرة عشر سنوات إلى الوراء عندما كانت خادمة في البيوت، تقول"بدأت العمل بهذا المجال منذ عشر سنوات، لأسباب مادية بالخصوص، فعلى الرغم من عملي المضني، لأجني لقمة عيش شريفة لي ولأولادي الخمسة، إلا أنني كنت أعاني مشاكل دائمة مع ربات البيوت اللواتي يجعلنني أعمل لساعات طوال ويتهربن من أداء أجرتي، فمن النساء من تطلب مني العودة بعد أيام وهناك من تقايض عملي ببعض المؤونة كالسكر والشاي والدقيق.
أما البعض الآخر فلا يخجلن من المماطلة أو إعطائي في آخر المطاف نصف ما اتفقنا عليه
وتضيف "هذه هي الأسباب الرئيسة لامتهاني هذا المجال، فقررت ألا أترك الخدمة بالبيوت إلا بعد أن أجمع معلومات كثيرة عن النساء اللواتي كنت أعمل لديهن واللواتي لم يكن يترددن في سرد مشاكلهن الشخصية علي فكنت أقنعهن بامتلاكي بعض مهارات السحر والشعوذة، ومع مرور الوقت اكتسبت بعض الشهرة بين نساء المنطقة وحينها قررت التوقف عن العمل في البيوت والتفرغ لعملي الجديد الذي برعت فيه بفضل الممارسة وثقتي بما أقوم به وكذلك استحسان زبنائي للنتائج".
وعن سرشهرتها بالمنطقة وإقبال الرجال والنساء عليها تقول "شعبيتي وكوني إنسانة اجتماعية مع الرجال والنساء على حد سواء ساعدني على جذب زبائن جدد باستمرار إذ بدأت أستقبل الزبناء في بادئ الأمر من النساء، بعد ذلك عرف بعض الرجال بدورهم طريقهم إلى منزلي على الرغم من غرابة الأمر بالنسبة إلي ولهم، إلا أنه ومع مرور الوقت اعتادوا زيارتي باعتباري عرافة متمكنة.
ولا تخفي فاطنة النتائج الإيجابية خصوصا على المستوى المادي منذ أن أصبحت "عرافة" بخلاف ما كانت عليه عندما عملت خادمة بالبيوت وتقول "أصبح الناس يقبلون أكثر فأكثرعلى هذه الممارسات حتى أنهم باتوا أكثر سخاء ولا يترددون في دفع أي مبلغ أطلبه منهم، في سبيل "حجاب"، أو قراءة الطالع، و دون أن أبذل جهدا كبيرا، على عكس "أيام زمان" التي كنت أذوق فيها مرارة التعب والعمل طوال النهار من أجل مبلغ "ثلاثين" درهما لا أتحصل عليها إلا بعد أيام".
بدت فاطنة وهي تروي حكايتها صادقة في كل كلمة قالتها، إذ كانت ملامحها وعباراتها مؤثرة وهي تتذكر ماضيها تقول "الناس يجدون المال للشعوذة لكنهم يفقدونه عندما يتعلق الأمر بأجر شخص ضعيف".
وتعتبر فاطنة أنها اكتسبت كل مهاراتها بفضل الممارسة وسفرها المستمر للأضرحة ولعدد كبير من الساحرات اللواتي لا يتوانين على مساعدتها وإعطائها نصائح وتعليمات انطلاقا من خبرتهن لإنجاح كل أعمالها السحرية، بالإضافة إلى تعاونها مع عشابين محترفين، ولا تنكر أيضا أن الصدفة تلعب دورا كبيرا في هذا المجال لدرجة أنها لا تخفي دهشتها بشكل شخصي أحيانا من مهاراتها وقدرتها" وتستطرد "نجاحي المستمر ورضى الزبناء عن النتائج تشجعني وتكون بمثابة حافز بالنسبة إلي للاجتهاد والمثابرة أكثر فأكثر
وتعطيني الثقة للاستمرار لدرجة أنني انخرطت بكل جوارحي في هذا العالم وبت أحلم بالأولياء الصالحين الذين ينادونني لزيارتهم".
لكن كل هذه النجاحات لم تمنع فاطنة من الشعور أحيانا بالندم الذي تقاومه بوضعها صوب عينيها سنوات العذاب والشقاء التي مرت بها، وتقول "أصبحت ملجأ العديد من الأشخاص الذين يعتبرونني امرأة "مبروكة" ويغدقون علي بالهدايا والأموال من أجل كسب رضاي وتحل بركاتي عليهم، في الوقت الذي كانوا فيه سابقا يعاملونني بازدراء لكوني خادمة".
ولم تنكر فاطنة استعدادها لتغيير مهنتها الجديد ة لكن في حال وجدت مصدر عيش آخر" أنا مستعدة لتغيير هذه المهنة في حال استطاع أحد ابنائي ايجاد عمل أو في حال تمكنت من إرساله إلى الخارج خصوصا وأنني بدأت اتقدم في السن " 43 سنة " ولم يعد باستطاعتي القيام بأي عمل آخر".
انصرفنا بعد توديع فاطنة التي لم تقبل المبلغ الرمزي الذي اقترحناه عليها، وتركنا وراءنا غرفتين مليئتين بأناس يأملون فك "العكوسات" وفتح أبواب الرزق بفضل قدرة وبركات الحاجة فاطنة.